عقارات لندن نبيذ فاخر يتهافت عليه الأثرياء

بريكست يعمق مخاوف الصغار بينما يستعد اللاعبون الكبار لاقتناص الفرص.
الأربعاء 2020/01/22
جاذبية لندن الفريدة تجعل أسعار عقاراتها عصية على الهبوط

الميت هو الشخص الوحيد الذي لا يتعرض للخسارة؛ مع ذلك يبقى الحذر مطلوبا، عندما يتعلق الأمر بالاستثمار. ولطالما اعتبر الاستثمار في القطاع العقاري طريق النجاة من التهلكة.

لكن هل نتيجة هذا الاستثمار مضمونة دائما، خاصة بعد تراجع أسعار العقارات الفخمة في أحياء لندن وضواحيها، التي يقبل عليها كبار المستثمرين الأجانب من مشاهير ونجوم ورجال أعمال؟

انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قسم وجهات النظر، بين متشائم يحذر من انهيار تام لسوق العقارات، ومتفائل، يرى أن أي نتائج تترتب على البريكست ستكون محدودة ولفترة قصيرة.

لم يسبق أن تعالت الأصوات، كما تتعالى اليوم، محذرة من انهيار، يعتبره البعض محتما، في سوق العقارات البريطانية، الذي سيتأثر بالخروج من الاتحاد الأوروبي.

بالطبع هناك آليات تعتمدها بيوت الاستثمار في التنبؤ باتجاه الأسواق، ومن ضمنها سوق العقارات، وتبقى تلك الآليات معقدة ومتشعبة، ونتائجها غير مضمونة مئة بالمئة.

ومن تلك المؤشرات المستخدمة في تحديد اتجاه الأسعار، نسبة الفائدة على القروض، ومستوى الدخل الفردي، وسعر العملة، ومعدل التضخم، ومعدلات البطالة، وكلها عوامل يمكن التنبؤ بها غالبا بدقة من قبل أهل الاختصاص. أما العوامل الأخرى التي يصعب قياسها، فتتعلق بأحداث تترتب عليها معطيات تصعب قراءتها مسبقا.

ميرين سمرست ويب: ارتفاع أسعار العقارات لعقود طويلة أحدث شرخا اجتماعيا وقسم البريطانيين بين رابحين وخاسرين
ميرين سمرست ويب: ارتفاع أسعار العقارات لعقود طويلة أحدث شرخا اجتماعيا وقسم البريطانيين بين رابحين وخاسرين

الكوارث البيئية والحروب مثال على تلك العوامل، ومن ضمنها أيضا ما بات يعرف بالبريكست، وهو انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، حيث تختلف وجهات نظر المحللين حول النتائج المترتبة على هذا الانسحاب، وتتراوح بين من يرى فيها كارثة اقتصادية، تطال جميع مناحي الحياة، بدءا من التوظيف وانتهاء بالتضخم، وبالطبع انهيار أسعار المنازل.

وهناك من يرى العكس، ويعتبر أن تأثيرات بريكست السلبية، إن وجدت، ستكون محدودة الأثر ولفترة قصيرة، تعود الأمور بعدها إلى وضعها الطبيعي، بل قد تعود أفضل مما كانت عليه.

يبدو الحسم في هذا الأمر صعبا للغاية، خاصة أن نتائج استطلاعات الرأي حول هذه القضية تأتي دائما منقسمة وغير حاسمة.

وبعيدا عن تأثيرات بريكست، شهد قطاع العقارات البريطاني تراجعا في الفترة الأخيرة، رأى فيه البعض مجرد تصحيح في الأسعار، بينما اعتبره آخرون بداية الانهيار.

70 عاما من الارتفاع

باستثناء فترات قصيرة، شهدت فيها أسعار العقارات في لندن تقلصا محدودا، حافظ المنحى العام للأسعار على خط متصاعد، على مدى أكثر من 70 عاما، أي منذ الحرب العالمية الثانية.

هذا التصاعد المستمر في الأسعار، أوصل إلى حالة يصعب معها، على شريحة واسعة من البريطانيين، دخول السوق العقاري؛ لقد نجم عن هذا الارتفاع السريع، حسب الكاتبة البريطانية في صحيفة فايننشال تايمز، ميرين سمرست ويب، انقساما اجتماعيا بين فئتين، الأولى فئة الفائزين، والثانية فئة الخاسرين، الذين اضطروا للبحث عن سكن لهم بعيدا عن لندن وضواحيها.

محاولات الحكومة البريطانية التأثير على الأسعار جرت قبل انطلاق الأصوات المحذرة من التأثيرات السلبية للخروج من الاتحاد الأوروبي، مدفوعة بسببين؛ الأول الخوف من حدوث فقاعة، تتهاوى بعدها الأسعار دون سيطرة، والثاني التعاطف مع الراغبين، من ذوي الدخل المحدود، في اقتناء منزلهم الأول في لندن.

واستهدفت القوانين الحكومية مشتري المسكن الثاني، من خلال زيادة الضرائب المدفوعة للبلديات، وفرض رسوم إضافية، مثل ثلاثة بالمئة عند إتمام صفقة الشراء.

الخبراء ينصحون بعدم الانجراف وراء شراء العقارات البريطانية حاليا، لكنهم يحذرون من التفريط بالعقارات المملوكة إلى حين اتضاح الرؤية

ويواجه المستثمرون أيضا ضرائب مرتفعة على عوائد الإيجار، ومتطلبات صارمة لإثبات قدراتهم على السداد عند ترتيب القروض العقارية، إضافة إلى مجموعة كبيرة من قواعد كفاءة الطاقة وقوانين الترخيص الجديدة، ودفع ضريبة مكاسب رأس المال، بنسبة 28  بالمئة عند بيع العقار.

وتجمع الأحزاب الأربعة الرئيسة في بريطانيا على فرض ضرائب على قيمة الأراضي، وإلغاء الإعفاءات الضريبية المتبقية لأصحاب العقارات.

كل هذا أدى إلى تراجع في أسعار الشقق في لندن بنسب تراوحت بين 25 و30 بالمئة، عن أعلى سعر وصلته قبل عدة أعوام.

المشهد السابق لا علاقة له بالبريكست، لذلك يعتقد المتفائلون أن الأسواق لن تشهد انهيارا مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فالتصحيح الكبير في الأسعار جرى مسبقا، وأي تراجع جديد سيكون محدودا، ولن يتجاوز 15 بالمئة بأي حال، وذلك لأسباب بعضها موضوعي وبعضها الآخر سيكولوجي.

أي انخفاض جديد في الأسعار، يفوق نسبة 15 بالمئة، قد يفتح منحدرا لاتساع الخسائر إلى ما قد يصل إلى نصف قيمة العقار، وهذا سيدفع المستثمرين إلى العودة بكثافة إلى القطاع. أيضا، ستصبح الأسعار في مدينة لندن أكثر إغراء من مدن أوروبية أخرى، لا تمتلك إغراءات العاصمة البريطانية.

مبررات التشاؤم

عناوين فاخرة لا نظير لها
عناوين فاخرة لا نظير لها 

في المقابل، يرى المتشائمون أن زمن الازدهار الطويل في أسعار العقارات تلاشى بالفعل، ويتوقعون أن تكون عملية التصحيح طويلة جدا، خاصة في ظل عدم اليقين.

ويربط المحللون في توقعاتهم أيضا بين سعر صرف الإسترليني وتدهور سعر العقارات. فالجنيه شهد ضغوطا هوت بسعره إلى أدنى مستوياته منذ 3 سنوات، حين انخفض لأول مرة تحت 1.2 مقابل الدولار منذ يناير عام 2017.

وبينما يرى المناهضون للبريكست الجانب السلبي فقط لتأثير انخفاض الجنيه على قيمة العقارات، يعتقد أنصار البريكست أن هذا سيدفع بمزيد من الأجانب إلى الاستثمار في القطاع.

وفي ظل هذا الجدل، يتزايد قلق المستثمرين الأجانب، خاصة في مدينة لندن وضواحيها. ويرى محللون أن الفترة القادمة هي فترة ترقب، لكنها ليست فترة رعب كما يحاول البعض تصويرها.

وحسب هؤلاء، فإن أي انخفاض مستقبل سيكون المتسبب فيه عامل نفسي فقط؛ توقع السيء الذي يؤدي بدوره إلى الأسوأ. وهناك لاعبون كبار ينتظرون لحظة تلامس فيها الأسعار نقطة الحضيض، للعودة لتصيد الفرص بقوة.

سيجري ذلك على حساب المذعورين، من أصحاب المساكن وصغار المستثمرين الذين تسهل إخافتهم، أما اللاعبون الكبار فهم عادة يتعاملون مع الاستثمار العقاري، على أنه استثمار بعيد المدى، ويرون في كل تراجع في الأسعار فرصة للربح.

قد ينتهي الأمر إلى 60 بالمئة من الخاسرين الصغار، لكن في المقابل هناك 40 بالمئة ينتظرون تحقيق أرباح كبيرة على المدى البعيد.

عاصمة المستثمرين العرب

سوق لندن العقارية تغري المستثمرين الخليجيين
سوق لندن العقارية تغري المستثمرين الخليجيين

تعد لندن وجهة تقليدية للمستثمرين من دول الخليج العربي في القطاع العقاري، خاصة بعد أن ظلت الأسعار في تصاعد حتى خلال الأزمة المالية العالمية بدءا من عام 2008، وهو ما أغرى المستثمرين للاندفاع نحو سوق لندن العقارية.

ووفق الإحصاءات الرسمية، يمتلك الكويتيون استثمارات عقارية تقدر بحوالي 21 مليار دولار تقريبا، غالبيتها مسجل بأسماء شركات أو صناديق في الخارج.

ووصلت استثمارات رجال الأعمال السعوديين في بريطانيا إلى ما يقارب 60 مليار جنيه إسترليني.

وتتفاوت استثمارات السعوديين بين استثمارات تنفيذية وسياحية واستثمارات عقارية على المستوى الخاص.

ويقول تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية (بي.بي.سي) إنه من الصعب أن تتجول في العاصمة البريطانية لندن وتعجبك مناظرها دون أن يعجبك شيء مما تملكة قطر.

وتملك قطر مساحات كبيرة من العقارات التجارية في قلب لندن من خلال مجموعة “كناري وارف”.

كما تملك الدوحة حوالي 95 بالمئة من برج “شارد” أطول ناطحة سحاب في غرب أوروبا. ويقول البعض مازحا إن “قطر تملك من أراضي لندن أكثر مما تملكه الملكة” إليزابيث الثانية.

وتشمل الاستثمارات القطرية في لندن متجر هارودز الشهير والقرية الأولمبية.

كما تضم تلك الاستثمارات حصصا متفاوتة في عدد من الفنادق مثل سافوي وانتركونتننتال وكلاريدجز.

ويمتلك جهاز قطر للاستثمار، وهو الصندوق السيادي لقطر، حوالي 879 عقارا تجاريا وسكنيا في العاصمة لندن فقط.

ويشمل هذا الإحصاء مساحات تجارية أخرى تشير بعض التقديرات إلى أنها تصل إلى حوالي 26 مليون قدم مربع.

ووفقا لأحدث التقديرات المتاحة، فإن القيمة الإجمالية للاستثمارات القطرية في بريطانيا تقارب أربعين مليار جنيه إسترليني.

هزة بريكست موقتة

خبراء ينصحون بعدم الانجراف وراء شراء العقارات حاليا
قطاع العقارات في انتظار اتضاح الرؤية

شهدت أسعار العقارات السكنية في بعض أحياء لندن، خصوصا الفارهة، تراجعا ملحوظا. ويعد حي ويستمنستر ومنطقة باترسي ومباني الشقق الجديدة على ضفاف التايمز، الأكثر هبوطا.

وهناك أحياء تضرّرت بدرجة أكثر، مثل حي ساوث كينزنغتون المعروف بطلب قوي من المشترين الأوروبيين. وشهدت العقارات سلسلة عروض وتنزيلات، ليهبط متوسط سعر المنزل السكني بلندن إلى ما دون 600 ألف جنيه.

الذين يحذرون من عواقب الاستثمار في القطاع العقاري، يستندون إلى مؤشرات كلاسيكية، ويربطون بين الدخل الفردي وبين أسعار العقارات، وما إذا كان الناس سيستمرون في اعتبار المنازل استثمارا، إضافة إلى كونه مكانا للسكن.

وحسب هؤلاء فإن لندن استطاعت خلق وظائف بمرتبات جيدة، وصلت فيما يعرف بالميل المربع (حيّ المال بلندن) إلى 60 ألف جنيه سنويا. وهذا نجم عنه بالضرورة ارتفاع في الإيجارات وبالتالي ارتفاع في أسعار العقارات.

لكن لندن قد تتعرّض لضربة الآن، فالرواتب أخذت بالانخفاض وبدأ بعض الناس يفقدون وظائفهم. لذلك فإن السوق ابتعدت عن ذروتها، وربما ينهار السوق إذا ما تم عرض المنازل، التي تم شراؤها بغرض الاستثمار، للبيع.

رغم هذه الصورة السلبية، يدعو أصحاب هذه الرؤية إلى التمهل، طارحين السؤال: كيف سيحدث ذلك إذا لم ترتفع أسعار الفائدة؟ ويتذكر الكثير بداية التسعينات، أثناء وجود بريطانيا في نظام آلية أسعار الصرف الأوروبية، حيث أدت زيادة في أسعار الفائدة إلى انهيار سوق العقارات.

ويجيب هؤلاء على السؤال الذي طرحوه قائلين: بكل تأكيد أسعار الفائدة لن ترتفع كثيرا في الوقت الراهن.

جاذبية راسخة

اقتناء شقق وسط لندن فرصة للتفاخر والتباهي
اقتناء شقق وسط لندن فرصة للتفاخر والتباهي

هناك عوامل تجعل من لندن وضواحيها جذابة، بعيدا عن لغة الاستثمار، وتلك العوامل لن تفقد أهميتها وتأثيرها باكتمال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. كما أن لندن ستبقى بالنسبة لأعداد كبيرة من المشاهير والنجوم والأثرياء، مدينة ليست كغيرها من سائر المدن.

الملياردير الذي يدفع مليون دولار لشراء زجاجة نبيذ فاخر، لن يوقفه شيء عن امتلاك شقة فاخرة في حي تشيلسي وسط لندن.

ومازال هناك شارون يقبلون على اقتناء شقق مميزة وسط المدينة، من خلال مزادات تبيع عادة الأعمال الفنية. ويشكل الفوز باقتنائها فرصة للتفاخر والتباهي. ويدرك المقتني عادة أن قدرته على الاحتفاظ بملكيتها عدة سنوات سترفع حتما من قيمتها السوقية.

ومع ذلك ينصح الخبراء بعدم الانجراف وراء شراء العقارات حاليا، وفي الوقت نفسه يحذرون من التفريط بالعقارات المملوكة، لحين اتضاح الرؤية.

10