السوريون: لن نموت كما تريدون.. بل سنحيا كما نريد

في السنة الدراسية الأولى بكلية الفنون الجميلة، اعتدتُ أن أعبر يوميًا المسافة الفاصلة بين كنيسة مار إلياس في منطقة الدويلعة وباب شرقي، ثم أتابع طريقي عبر حارات دمشق لأصل إلى منطقة باب توما، ومنها إلى مبنى الكلية في منطقة القصّاع. ولم يفقدني الروتين القدرة على الاستمتاع بهذا الطقس اليومي.
كانت هذه المنطقة مثالًا حيًّا على التعايش بين جميع أطياف المجتمع السوري. يقطن في هذه المساحة الضيقة مسيحيون، ويهود، وأرمن، ودروز، وسنّة، وشيعة، في سلام تحسد سوريا عليه، تجسيدًا للمثل السوري: “البيت الضيق يتسع لألف صديق.” وكان السوريون يومها أصدقاء.
نفس المسافة القصيرة، بين الدويلعة وباب شرقي، كانت، في الأيام الأخيرة، مسرحًا لمشهد دموي وآخر يحتفي بالحياة.
تفجير كنيسة مار إلياس لم يكن مجرد هجوم على مبنى حجري يتعبد فيه الناس، بل على ما تبقّى من إحساس السوريين بالأمان، من أمل أن يحلّ الهدوء بعد الحرب.
في الليلة ذاتها التي انطفأت فيها شموع الكنيسة، كانت أجساد عشرات الشباب السوريين تتمايل على وقع موسيقى “دي جي نورية”، ابنة الحرب العائدة من برلين، لتبعث الحياة في قلب العاصمة المنهكة.
أن تكون سوريًا اليوم يعني أن تعيش بين نقيضين: الألم الذي لا يتوقف، والرقص الذي لا يُقهر.
في دمشق، حين يتحوّل بيت من بيوت العبادة إلى ركام، لا يكفي أن تُستنكر الجريمة. لا يكفي أن نقول “داعش” ونمضي. السؤال الأهم: ماذا سنفعل لنقدم العون لهذا البلد الذي يحاول أن يتنفّس من تحت الأنقاض؟ هل نردّ على الظلام بالقمع؟ أم بالاعتراف بجرح الجماعة والسعي إلى ترميمه سياسيًّا وثقافيًّا؟ الحرب لن تنتهي ما لم نتعلّم كيف نحمي السلام، كيف نحرس التعدّد، كيف نعيد الثقة إلى الناس.
ونعود إلى “دي جي نورية”… فتاة ثلاثينية ذرفت دموعها على المسرح، لأنها أخيرًا استطاعت العودة إلى سوريا لتقيم أول حفل موسيقي بعد سقوط النظام. لم تكن متأكدة أن موسيقاها “التكنو” ستجد صدى في قلوب أنهكها الدمار، لكنها تفاجأت بالإقبال، بالرقص، بالحياة تتفجّر رغم الخوف. قالتها ببساطة: “كنا نتنفّس الحياة… لم نعد نخاف.” إنها رسالة واضحة: من أراد لنا الموت، سنردّ عليه بالمزيد من الحياة.
الحكومة في دمشق، اليوم، أمام امتحان حقيقي. فإما أن تكتفي بالمواجهة الأمنية وردود الفعل الرمزية، أو أن تعترف أن مستقبل سوريا لا يُبنى إلا بمصالحة حقيقية مع ناسها، مع ثقافتهم، مع موسيقاهم، مع اختلافهم.
من جمعية “كاساتا” التي تنظّم الحفلات رغم التهديد، إلى الشباب الذين يخاطرون بحريتهم كي يرقصوا، ويحبّوا، ويغنّوا… يُعاد تشكيل مشهد سوري جديد، عنيد، لا يهادن، لا يتنازل عن فرحه، حتى ولو كان محفوفًا بالمداهمات والقلق.
الذين فجّروا الكنيسة أرادوا أن يعيدوا سوريا إلى ما قبل الصوت. لكن من خرجوا في تلك الليلة إلى نادي الباب الشرقي، أكدوا للعالم أن هذه الأرض لا تزال قادرة على إنجاب أغنية، وسط كل هذا الصمت الثقيل.
في دمشق، في اللحظة التي سقط فيها ضوء الشموع في مار إلياس، كان هناك صوت في الجهة الأخرى يقول: “لن نموت كما تريدون… بل سنحيا كما نريد”.