امتحان لمستقبل التعددية في سوريا

ربما يكون الهجوم رسالة من الظلاميين بأنهم ما زالوا قادرين على التخريب لكن الأهم هو أن تُقابل الرسالة بإصرار وطني مضاد: سوريا لكل مكوناتها لا مجال فيها للقتل باسم أيّ عقيدة.
الخميس 2025/06/26
هول الفاجعة تجاوز الأرقام

التفجير الانتحاري الذي استهدف كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة الدمشقي لم يكن مجرّد حادث أمني عابر، بل لحظة مفصلية تُعيد طرح سؤال التعايش في سوريا ما بعد الحرب. الهجوم، الذي أودى بحياة 25 شخصًا وأصاب العشرات، شكّل أول اعتداء من نوعه يستهدف كنيسة من الداخل منذ اندلاع النزاع عام 2011، في حدثٍ يعيد إلى الواجهة الهواجس القديمة – الجديدة المتعلقة بحماية الأقليات، وقدرة السلطة الانتقالية على ضبط الأمن وفرض هيبة الدولة.

دمشق التي قاومت لعقد من الزمن جراح الحرب، تلقت ضربة في قلب مجتمعها المدني. الكنيسة، كمكان للسلام والسكينة، تحوّلت في لحظة إلى مسرح دموي. هذا التحول الصادم لا يهدد فقط النسيج المجتمعي، بل يطعن في صلب الوعود التي أطلقتها السلطة الجديدة حول إعادة الاعتبار لقيم الوحدة الوطنية وحماية التعدد.

وإن كان تنظيم “داعش” قد تبنّى الهجوم، فإن التحدي الأكبر لا يكمن في هوية المنفذ، بل في بنية الرد. سوريا اليوم ليست تلك البلاد التي خنقتها المعادلات الطائفية والصراع المسلح وحده، بل بلد يحاول أن يضع نفسه على سكة انتقال سياسي، محكوم بلحظة اختبار عسير. كيف ستتفاعل السلطة مع هذا الخرق؟ وهل يكون الرد أمنيًا فقط أم سياسيًا وإنسانيًا أيضًا؟

◄ أمام أنقاض كنيسة مار إلياس، لا نودع فقط الضحايا، بل نودع وهمًا كنا نتمسك به: أن الحرب قد انتهت. والحقيقة أن الحرب الحقيقية تبدأ عندما لا نستطيع حماية السلام الذي نحاول صنعه

المأساة لها بُعد ديني لا يمكن تجاهله. الطائفة المسيحية في سوريا، التي تراجع عدد أفرادها من حوالي مليون قبل عام 2011 إلى أقل من 300 ألف اليوم، لم تعد تشعر أنها مجرد أقلية سكانية، بل صارت تنظر لنفسها كأقلية معنوية مهددة بالغياب. حادثة كنيسة مار إلياس تُعمّق هذه المخاوف، وتضع مستقبل الوجود المسيحي في البلاد تحت مجهر القلق والشك. فهل السلطة الجديدة مستعدة لتفكيك هذا الهلع؟ هل تملك القدرة على بناء جسور الثقة مجددًا؟

ما يجعل الموقف أكثر تعقيدًا هو الطابع الرمزي للكنيسة نفسها، الواقعة في حي الدويلعة، الذي طالما كان نموذجًا للتمازج بين الطوائف. التفجير إذًا لم يكن عشوائيًا، بل هو مقصود في رمزيته؛ وهو محاولة لتفجير الشارع السوري من الداخل، عبر إحداث شرخ في نسيج مجتمعي مهلهل منذ سنوات الحرب. إنه استهداف صريح لوحدة سوريا الثقافية والدينية، وانزلاق خطير نحو نماذج أخرى من العنف الطائفي الذي شهدته مدن عربية متعددة في العقود الأخيرة.

إن التفجير، مهما كانت دوافعه، لا يستهدف الروم الأرثوذكس فحسب، بل يهدد ما تبقى من فسيفساء الانتماء السوري. وهو ما يفرض على السلطة الانتقالية أن تتعاطى معه كرؤية إستراتيجية، لا حادثًا أمنيا معزولا. إعادة بناء الثقة المجتمعية تبدأ من هنا.

ربما يكون هذا الهجوم رسالة من الظلاميين بأنهم ما زالوا قادرين على تخريب ما يُبنى ببطء، لكن الأهم هو أن تُقابل هذه الرسالة بإصرار وطني مضاد: سوريا لكل مكوناتها، لا مجال فيها للقتل باسم أيّ عقيدة.

◄ الطائفة المسيحية في سوريا، التي تراجع عدد أفرادها من حوالي مليون قبل عام 2011 إلى أقل من 300 ألف اليوم، لم تعد تشعر أنها مجرد أقلية سكانية، بل صارت تنظر لنفسها كأقلية معنوية مهددة بالغياب

صدى هذا الحادث لم يبقَ داخل سوريا. التنديد الواسع من المجتمع الدولي ـ من الأمم المتحدة، إلى فرنسا، إلى الأزهر الشريف ـ يعكس القلق العالمي من أن تنتكس سوريا إلى دوامة الإرهاب والفوضى. كما يظهر الحاجة الماسة إلى تعزيز آليات الحماية المدنية، وليس فقط الأمنية، وإعادة التفكير بمنظومة العدالة والحوكمة في البلاد.

الإدانات الدولية جاءت حازمة، لكن ما تحتاجه سوريا اليوم ليس التضامن العابر، بل دعم صريح لمسار يعيد الاعتبار للمواطنة بوصفها هوية جامعة، لا خنادق فرعية. الأقليات في هذا السياق ليست “ملفات” يجري احتواؤها سياسيًا، بل شركاء حقيقيون في صياغة مستقبل لا يُبنى على الخوف، بل على الثقة.

الكلمات لا تكفي؛ المطلوب بناء رؤية سورية شاملة تُعامل الكنيسة كما تُعامل المسجد، وتُساوي بين دم المسلم والمسيحي، وتكفل الحياة الكريمة لكل السوريين، دون أن يضطروا للهجرة أو الخوف على حريتهم الدينية.

الإرهاب لا يُواجه فقط بالسلاح، بل بالتعليم، والانفتاح، ومكافحة الفقر، وإعادة بناء روح المواطنة. السلطة الجديدة، إن أرادت أن تثبت جدارتها، فعليها أن تستثمر هذه اللحظة المفجعة لا ككارثة فقط، بل كنقطة تحول. الاعتراف بالتقصير بداية، والاستماع لصوت العائلات المنكوبة، وتحقيق العدالة بشفافية، قد يُعيد بعضًا من الثقة المفقودة. لكن الأهم، هو الالتزام الصارم بعدم تكرار هذه المجازر، وعدم السماح لتحوّل الكنائس والمساجد إلى ساحة حرب بدلاً من أن تكون ملاذًا للسلام.

إن هول هذه الفاجعة يتجاوز الأرقام. إنها لحظة تأمل جماعية ـ لسوريا، وللعالم ـ حول معنى الحماية، التعدد، والعدالة. فأمام أنقاض كنيسة مار إلياس، لا نودع فقط الضحايا، بل نودع وهمًا كنا نتمسك به: أن الحرب قد انتهت. والحقيقة أن الحرب الحقيقية تبدأ عندما لا نستطيع حماية السلام الذي نحاول صنعه.

8