طموح الأم إلى المثالية يؤثر سلبا على علاقتها بأبنائها

حث الطفل الدائم على أن يكون مثاليا يجعله متقبلا بدرجة أولى.
الأربعاء 2021/08/18
الأم الجيدة أفضل من الأم المثالية

يؤكد خبراء علم النفس أن بلوغ المثالية يتطلب من الأم مجهودا جبارا ويؤثر على علاقتها بأطفالها، ما يحول دون تربيتهم تربية سليمة ويؤدي أيضا إلى زعزعة ثقتهم بأنفسهم. وينصح الخبراء الأمهات بأن يكتفين بأن يكن أمهات جيّدات عوض أن يشعرن بالقلق الدائم حيال القيام ببعض الأمور بشكل صحيح.

تسعى بعض الأمهات للوصول إلى مرتبة الأم المثالية، فيصبح ذلك من المعوقات التي تحول دون تربيتها لطفلها بشكل سليم. وبمجرد محاولة الأم السعي لبلوغ ذلك تجد نفسها عاجزة عن تحقيق مرادها، ما قد يؤثر عليها بصورة سلبية.

وأشارت الأخصائية النفسية ليودميلا بيترانوفسكايا في كتابها “أمي في نقطة الصفر، دليل الإرهاق الأبوي” إلى الأخطاء التي قد تقع فيها الأم عند محاولتها أن تكون أما مثالية. وقالت بيترانوفسكايا “في واقع الأمر، من الرائع أن تتجسد الصفات المثالية في شخص الأم، ولكن لا يمكن أن تتوفر جميعها مهما حاولت الأم جاهدة بلوغ ذلك”.

وأضافت أن صورة الأم المثالية تقتضي أن تكون متفرغة دائما لقضاء الكثير من الوقت مع طفلها، كما يجب أن تكون شخصية مستقلة ماديا ومعنويا وقادرة على الاعتماد على نفسها. وبالإضافة إلى ذلك، لا بد أن تكون الأم سعيدة ومستعدة دائما لتلبية احتياجات الطفل المعنوية. ولكن، هذا بطبيعة الحال أمر مستحيل نظرا إلى تزايد مشاغل الحياة العصرية بالإضافة إلى مصاعبها.

ويرى أخصائيو سلوك الأطفال أن “الأم المثالية” مصطلح سحري وصورة نمطية تظهر الأم كأنها تمتلك قدرات خارقة، مزيج من الهدوء الخالص والحيوية المفرطة والحكمة الدائمة والتفاني اللامتناهي. وفي سبيل البحث الدائم عن تلك الصورة تتأثر العلاقة سلبا بين الأم وأطفالها، حيث لا توجد في الواقع “أمّ مثالية” بينما ربما من الأفضل أن تكون “أمًّا جيدة” فقط.

مروان النويري: أصحاب هذه الشخصيات يريدون بلوغ الكمال عبر المعايير العالية للأداء والإنتاجية

وقالت الدكتورة رنا صفوت أخصائية سلوك الأطفال، إن الأم تواجه العديد من متطلبات الحياة الصعبة بين العمل ومحاولة الاستقلال المادي، وتوفير حياة صحية لأطفالها من تحضير وجبات صحية، والاهتمام بنظافتهم ودراستهم وتمارينهم، إضافة إلى الاهتمام بالمنزل والتحدث مع الأطفال وحل مشاكلهم، وتلبية متطلبات زوجها، وتمضية وقت لطيف لا يخلو من اللعب والحب مع الأطفال، والتوفيق بين كل تلك الأمور بشكل يومي يعد أمرا بالغ الصعوبة.

وأضافت أنه بمجرد محاولة الأم السعي لبلوغ ذلك تجد نفسها عاجزة عن تحقيق مرادها، مما قد يؤثر عليها بالسلب وتنفد طاقتها بسرعة كبيرة وتجد نفسها تفتقد للسيطرة وتحيد عن تلك الصورة رغما عنها.

وأشارت إلى أن  الرغبة والسعي الدائمين للوصول إلى صورة الأم المثالية يحولان دون تربيتها لطفلها بشكل سليم، بل يؤديان إلى زعزعة ثقته بنفسه بسبب حثه الدائم على أن يكون مثاليا هو الآخر.

ويشير خبراء علم النفس إلى أن المثاليين هم أشخاص يعانون بصمت وذنبهم الوحيد سعيهم الدائم للكمال. كما يشعرون بالقلق الدائم حيال القيام بالأمور بشكل صحيح. وهذا الاهتمام بالتفاصيل يجعل من المسألة هاجسا بالنسبة إليهم، فأبسط المهام تستغرق منهم الكثير من الوقت لأنهم لا يتسامحون مع ارتكاب الأخطاء.

وأوضح مروان النويري الأخصائي التونسي في علم نفس النمو والتربية أن سمات الشخصيات تتحدّد من خلال سلوكيات البشر، مشيرا إلى أن هناك ما يسمى في الطب النفسي بـ”اضطراب الشخصية المثالية”.

وقال النويري إن أصحاب هذه الشخصيّات يريدون بلوغ الكمال وذلك من خلال وضع معايير عالية للأداء والإنتاجية كما يحددون سقفا عاليا من النتائج ويلزمون أنفسهم بطريقة متواصلة لبلوغ الأهداف ودائما ما يكون سقف توقعاتهم عاليا.

وتفرض الشخصية العادية على أصحابها رغبتها في بلوغ الكمال وأن تصل إلى مبتغاها بطريقة متوازنة ومتكيّفة مع واقعها وتشعر براحة نفسيّة عند بلوغ وتحقيق ما سطّرته من خطط وأهداف.

أما الشخصية المرضيّة فلها مشكلة مع الذات وهي مهووسة ببلوغ النتائج وتقييماتها النقديّة مبالغ فيها وتحس بمركّب نقص كبير وغالبا ما تجلد ذاتها ولا ترضى عن نفسها مهما حققت من إنجازات.

وحسب النميري يخاف هذا النوع من الشخصيات من تقييمات الغير لهم ولديهم دافع مستمر لسد النقص الذي يحسّون به بطرق تكون أحيانا تعجيزية. كما يكون أصحاب هذه الشخصيّة غير متكيّفين مع محيطهم لذلك يجدون صعوبات كثيرة في علاقاتهم الاجتماعية أو في حياتهم الأسرية، وقد تصل بهم هذه الحالة إلى مشاكل نفسية معقدة منها التوتّر الدائم والاكتئاب.

وأكد النميري أن ما يرهق الأبناء في علاقتهم بالأم المثالية هو كثرة الإلحاح والحرص على بلوغ الأهداف المرسومة من جانبها إلى أن يفقد الطفل الرغبة في الإقناع أو التواصل التفاعلي فيصبح متقبلا بدرجة أولى وكائنا غير قادر على التفكير وأخذ القرار السليم وبالتالي تهتز ثقته بنفسه، وهو ما يمنعه من خوض تجارب من شأنها أن تثري معارفه لتجعله أكثر فاعلية في محيطه ويتمتع بالشعور بالاستقلالية.

الرغبة والسعي الدائمان للوصول إلى صورة الأم المثالية يحولان دون تربيتها لطفلها بشكل سليم، ويؤديان إلى زعزعة ثقته

وأشار كريم اليعقوبي الأخصائي النفسي التونسي إلى أن الإشكال يتمثل في تجاوب الطفل مع طموحات الأم والامتثال لأوامرها فيتلقى وابلا من التقييمات الإيجابية والتعابير العاطفية التي تجعله يشعر بالارتياح وقتيا لأن المطلوب منه يتجاوز قدراته وطموحاته، وفي الآن نفسه يصبح غير قادر على التراجع إلى الوراء، فيصبح الخطأ من جانب الطفل بمثابة الحرمان العاطفي. وستمرّ الأم بدورها إلى المرحلة الموالية في إطار استراتيجيات استباقية لضمان استمرارية النتائج.

وأكد الصحبي بن منصور أنه ينبغي أولا التساؤل عن مجال بحث الأم عن المثالية، هل يكون ذلك في الوسط الأسري أم المهني أم في المجتمع، لأنه لو كان البحث عن ذلك في القطاعات الثلاثة المذكورة فإن ذلك يتطلب في الحقيقة طاقة جبارة على التحمل وإيجاد التوازن بينما لا يمكن المحافظة على نقطة التوازن فيها مجتمعة.

وقال بن منصور إن المثالية مرتبطة بالتصور المراهق للوجود وبين المنشود والموجود بون شاسع ومسافات لا تقطع إلا بالصبر العظيم وبرحابة صبر كبيرة.

وتابع “صحيح أن للمثالية، كما لكل شيء، وجها إيجابيا وآخر سلبيا، فإذا نظرنا إلى المشرق في المثالية نرى أنها مفيدة على صعيد تكوين أبناء منضبطين ومنظمين، لكن إذا بحثنا في السلبيات نكتشف تأثيرها في تشكيل نفسيات منقادة وشخصيات تقدس القواعد والحدود أكثر من فهم المقاصد وترجيح مكامن النفع..”.

ويرى بن منصور أن المثالية في المجمل مطلب كل إنسان حالم أما صاحب النظرة الواقعية، فإنه سيبحث عن النجاعة في إطار التمسك بالمبادئ وبالشكل الذي لا يجعل مثاليته فاقدة للوزن في المجتمع ولا يجعل المتحلي بها محل استهزاء.

وعلى الأم بالتالي أن توازن في مثاليتها بين الاحتكام إلى القيم الأصيلة وتطورات العصر وروح الواقع.

21