صناع الدراما التونسية يستمرئون النجاح ويلجأون إلى الأجزاء

بعض صناع الدراما في تونس يستسهلون نجاح مسلسل ما، فيركبون موجة الأجزاء وفق ما يمليه سوق العرض والطلب.
الخميس 2020/02/20
"أولاد مفيدة" تعاقبت أجزاؤه من دون مبرر

قليلة هي المسلسلات التونسية التي تتابعت أجزاؤها بنفس النجاح الذي عرفه السيتكوم الكوميدي “شوفلي حل” بمواسمه الستة، والتي لا تزال تعرضها قناة “الوطنية 2” بشكل يومي منذ أزيد من خمس سنوات مُتعاقبة. فهل هو الاستثناء التونسي في مجال الدراما التونسية، رغم تكرّر تجارب المسلسلات الأجزاء بالبلد في العشرية الأخيرة؟

تونس- أعلن المخرج التونسي عبدالحميد بوشناق أخيرا انطلاقه في تصوير الجزء الثاني من مسلسل “نوبة” الذي لاقى نجاحا جماهيريا كبيرا في رمضان 2019، وهو المسلسل الذي يغوص في عالم “المزود” وفنانيه (آلة نفخ شعبية)، حيث يتقاطع فيه الكوميدي بالتراجيدي وتتفرّع فيه الحكايات بين الخيانة والغدر والأمل والألم والحب والكره.

مسلسل أجمع النقاد والمُشاهدون على تميّزه نصا وإخراجا وتمثيلا، فبات “نوبة 2” مطلبا جماهيريا، حيث تواترت التغريدات على مواقع التواصل الاجتماعي مُطالبة مُخرجه الشاب كي ينجز جزءا ثانيا منه.

فهل تضمن دعوات الجماهير لبوشناق كي يستكمل تجربة “نوبة” النجاح لمسلسل كتبه خصيصا فريق من الممثلين الشبان (هم نجوم المسلسل)، ليكون صالحا للعرض في موسم واحد لا أكثر، حيث بدايته واضحة وعقدته مُكتملة ونهايته معلومة؟ سؤال لن يجيبنا عنه إلاّ كمّ الإعلانات التي سيوفّرها المسلسل لداعميه إن كُتب له النجاح من عدمه.

نجاح نسبي

أحداث مسلسل "نوبة" قريبة من العائلة التونسية البسيطة
أحداث مسلسل "نوبة" قريبة من العائلة التونسية البسيطة

عرفت الدراما التونسية في أواسط التسعينات أول ظهور لما يصطلح على تسميته بالمسلسلات الأجزاء، من خلال مسلسل “الخطاب على الباب” الذي أتى في جزأين (عرض في رمضان 1996 و1997)، وهو المسلسل الاجتماعي الكوميدي الذي عرف نجاحا جماهيريا غير مسبوق أيامها.

وتعود أسباب هذا النجاح لعاملين أساسيين، أولهما قوة السيناريو الذي صاغه بطريقة شاعرية لا تخلو من طرافة، السيناريست والشاعر علي اللواتي، الذي توفّق في الجمع بين تناقضات المجتمع التونسي في مسلسل واحد دون أن تسقط المعالجة الدرامية في الإسفاف والضحك المجاني.

كانت شخصية الطالب أحمد (قام بالدور نجيب بلقاضي) في تماس حميمي مع شخصية عبودة (رياض النهدي) البسيط والساذج، وكذلك الأمر مع شخصية سطيّش (فيصل بالزين) المُتبنى من عائلة الشاذلي التمار (رؤوف بن عمر) الأرستقراطية، التي تتعامل معه وكأنه واحد من أبنائها، علاوة على شخصية الشيخ تحيفة (عبدالحميد بن قياس) الشيخ المتصابي الذي أجّج الهوى قلبه من جانب واحد، فهام عشقا في المعينة المنزلية لآل التمار حدّة (نعيمة الجاني).

من هناك، أتت الشخصيات قريبة من العائلة التونسية البسيطة، فنجح المسلسل، وبات حديث الشارع التونسي في ليالي السمر الرمضاني، وهي الخصلة الثانية للعمل الذي تروي أحداثه أجواء الأحياء العتيقة للعاصمة تونس، خاصة في شهر رمضان وما يدور في الأزقة من شدّ وجذب بين الجيران/ العائلة الموسعة للحارة التي يسودها السلم والتكاتف، وإن اختلف أهلها أحيانا، بل ودائما.

تكررت في العشرية الأخيرة تجربة المسلسلات الأجزاء بشقيها الكوميدي والتراجيدي، من دون أي مبرر درامي يجيز استمرارها

هذه النوستالجيا للمكان والزمان والشخصيات البسيطة والأجواء الرمضانية بنفحاتها التونسية المخصوصة لأهل البلد المُتحابب والمُتآزر إلى حدّ مُبالغ فيه، أحيانا، جعلت “الخطاب على الباب” يُعاد بثّه إلى الآن على قناتي “الوطنية1” و”الوطنية2” (عموميتان)، شأنه في ذلك شأن السيتكوم الكوميدي “شوفلي حل” الذي تفرّغت “الوطنية 2” إلى إعادة بثه بشكل يومي في ذروة المُشاهدة التلفزيونية، وذلك منذ ما يزيد عن خمسة أعوام مُتعاقبة.

تتالت المسلسلات الأجزاء في تونس بعد النجاح الذي حقّقه كل من مسلسل “الخطاب على الباب” بجزأيه، وسيتكوم “شوفلي حل” بمواسمه الستة المُتعاقبة من 2005 وحتى 2009، خاصة في المجال الكوميدي. فظهرت سيتكومات جديدة حاولت استنساخ نجاح “شوفلي حل” الذي لم يفقد على مدار أزيد من عقد عرشه، رغم تتالي المُحاولات بين أعمال جادة وأخرى هزيلة، وما
أكثرها.

والقائمة هنا تحيلنا، على سبيل الذكر لا الحصر، إلى “نسيبتي العزيزة” بأجزائه الثمانية، وهو أطول مسلسل أجزاء تونسي على الإطلاق بـ143 حلقة، و”بوليس حالة عادية” بأجزائه الثلاثة، و”دنيا أخرى” بأجزائه الثلاثة، أيضا، وفي جزأين كل من “سكول” و”بنت أمها” و”هابي ناس”.

وإن نجح “بوليس حالة عادية” عبر طرحه الإخراجي المتطوّر واعتماده على كوميديا الموقف، وبنسبة أقل “نسيبتي العزيزة” عبر الأداء الكوميدي المُبتكر لبعض ممثليه، فإن بقية المسلسلات سقطت في الابتذال والسطحية، مع اجترار بعض التغريدات التي يُبدعها المواطن التونسي على مواقع التواصل الاجتماعي.

عقدة التمطيط

"خطاب على الباب" مسلسل اجتماعي كوميدي عرف نجاحا جماهيريا غير مسبوق خلال عرضه الأول
"خطاب على الباب" مسلسل اجتماعي كوميدي عرف نجاحا جماهيريا غير مسبوق خلال عرضه الأول

على الجانب الآخر، أي في المجال الدرامي، عرفت المسلسلات الأجزاء في تونس ذروتها مع المسلسل الاجتماعي “مكتوب” بأجزائه الأربعة (ببين سنوات 2008 و2014)، والذي سبّب عرضه انقساما في الشارع التونسي بين مؤيد ومعارض لهذه النوعية من المسلسلات، وهو الذي تناول بشكل جريء لم يتعوّده المُشاهد التونسي، قضايا اجتماعية مسكوتا عنها، كقضية التمييز العنصري والإنجاب خارج إطار الزواج والخيانة الزوجية داخل الأسرة الواحدة وغيرها من المواضيع المحظورة في المجتمعات العربية الإسلامية.

الأمر ذاته انسحب على مسلسل “نجوم الليل” بأجزائه الأربعة، أيضا، وهو المسلسل الذي بثته قناة “حنبعل” الخاصة بين سنوات 2009 و2013. مسلسل يسرد حرب قيم طاحنة تدور بين طبقتين من المجتمع التونسي تختلفان تماما. الأولى هي الطبقة البرجوازية المتورطة في أعمال غير قانونية مثل المخدرات والجنس والتحيّل. تدخل في صراع مع الطبقة الفقيرة والمهمشة، هي الطبقة الثانية، أو الطبقة الأدنى، والتي تدافع عن مبادئها مثل الشرف والصدق والتضامن.

وقد لاقى “نجوم الليل” في جزأيه الأولين خاصة، نجاحا جماهيريا كبيرا، وعرف نسب مشاهدة عالية، قبل أن يسقط في التمطيط والإسقاطات غير المبرّرة للأحداث والشخصيات على حد السواء.

وفي مجال الدراما الاجتماعية أيضا، عُرض مسلسل “ناعورة الهواء” في جزأين، حيث تفوّق جزؤه الأول بشكل كبير وواضح على جزئه الثاني، الذي أراد أن يُعالج قضايا الفساد الإعلامي والسياسي الذي نخر تونس بعد ثورة 14 يناير 2011، فأهمل قضيته الرئيسية في جزئه الأول، والمتمثلة في الاتجار بالأعضاء، فأتت أحداث جزئه الثاني مُسقطة ممّا أربك المُعالجة الدرامية أصلا، فتاه المسلسل في موجة العنف والثأر دون جديد يُذكر.

عرفت الدراما التونسية في أواسط التسعينات أول ظهور لما يصطلح على تسميته بالمسلسلات الأجزاء، من خلال مسلسل "الخطاب على الباب"

هو نوع من استسهال النجاح تمليه سوق الإعلانات والإشهار والداعمين على صناع الدراما الموسمية في تونس، فيركبون موجة الأجزاء تفاديا للخوض في مُغامرة جديدة غير مضمونة العواقب. وهو الذي حصل، تماما، مع المخرج سامي الفهري في الموسم الرمضاني 2018، حين غامر بإنتاج ضخم تمثّل في المسلسل التاريخي “تاج الحاضرة” الذي أجمع النقاد على جودته وجدّته، لكنه في المقابل لم يحظ بالمتابعة الجماهيرية المنتظرة.

ومن هناك عاد سامي الفهري إلى حصانه الرابح “أولاد مفيدة” لينجز جزءا رابعا منه، مرّ مرور الكرام، دون أن يترك أي أثر لدى المُشاهد التونسي الذي شدّته عقدة المسلسل في أجزائه الثلاثة الأولى، عقدة أساسها سؤال، من هو ابن سي الشريف (هشام رستم) بين أبناء “مفيدة” الثلاثة، بدر أم بيرم أم إبراهيم؟ وحين قتل بدر أباه في آخر حلقة من الجزء الثالث، انتهت الحكاية، وانكشفت العقدة وانفضّ المجلس، فما الداعي من إنجاز جزء رابع، سيعقبه في رمضان المُرتقب جزء خامس؟

و”أولاد مفيدة” يروي منذ جزئه الأول قصّة أرملة لها ثلاثة أولاد، هي مفيدة (وحيدة الدريدي) التي يعود عشيقها من هجرته بعد عشرين عاما، ليطالبها بمعرفة أي من أبنائها الثلاثة هو ابنه، وهو الذي كان يعلم بحكم صداقته بزوجها السكير، أنها حامل منه، لكن الأم تمتنع عن إخباره بالحقيقة.

16