شعراء طوّعوا الصمت ليقولوا ما لا تقدر الكلمات على ترجمته

الشعر العربي خرج من "القصيدة" إلى الكتابة ومن الكلام إلى الصمت ومن هيمنة اللغة إلى حضور دوال أخرى.
الخميس 2021/01/07
محاولة لمقاومة ضجيج العالم (لوحة للفنانة نور بهجت)

الوضع متشابه في العالم العربي، حيث تعج أقسام الآداب في الجامعات والندوات والتظاهرات الأدبية والمنابر الإعلامية الثقافية وحتى أرفف المكتبات بالكثير من الدراسات النقدية سواء في شكل كتب أو محاضرات، والتي تتناول تجارب الأدباء الرواد، وتغفل أغلبها التجارب المعاصرة اليوم، إذ توقف اجتهاد النقاد والدارسين عند معايير منتصف القرن العشرين، يكررونها وكأنها مقدسات، وهو ما ثار ضده الناقد المغربي صلاح بوسريف.

يؤاخذ الشاعر والناقد المغربي صلاح بوسريف في كتابه الجديد “شعرية الصمت: الأفق الشعري” النقاد على اكتفائهم بحصر ما يقرأونه من شعر في ماضيهم، وعدم خروجهم منه لينظروا في الكتابات والتجارب التي جاءت بعد السبعينات من القرن الماضي، بما في ذلك المقترحات النظرية التي جاءت محايثة لبعض هذه التجارب.

ويرى بوسريف أن الكتابات النظرية والنقدية تحتاج اليوم إلى مراجعات في المفاهيم والرؤى والتصورات، خصوصا ما يتعلق بالشعر، إذ أن ما نقرأه في هذا السياق كتابات لم تخرج عن نصوص السبعينات وما قبلها، وكأن لا شيء تغير في الشعر، وأن ما حدث من تحولات في تلك الحقبة من الزمن هو نفسه ما يجري من تحولات في الوضع الشعري الراهن.

من القصيدة إلى الكتابة

الصمت لغة المعنى والوجود
الصمت لغة المعنى والوجود

يدعو الناقد في كتابه، الصادر حديثا عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عمان، إلى إعادة قراءة الشعر في نصوصه، وفي تجاربه، وفي الأعمال الشعرية التي تشكّل أفق تجربة لها ملامحها، سواء من حيث الإنتاج أو من حيث القيمة الإبداعية، لافتا إلى أن من يقاربون الشعر اليوم يكتفون بأدوات وآليات ومفاهيم قراءة التجارب السابقة نفسها، وكأننا إزاء معيار جديد تضمره هذه القراءات في ذهابها إلى الشعر، مثل معيار الموزون والنثري، والشعر واللاشعر. وهذا، في حد ذاته، تعبير عن الوعي النقدي المحافظ، الذي اقتنع بالمكتسبات، أو ما اعتبره مكتسبات.

ويذهب بوسريف إلى أن هذا المنحى من المقاربة، الذي يفرزه العقل ويذهب إليه، لا يجد من يستمع إليه، أو يتأمله ويقرأه لأن النمط الذي يتحول بحكم العادة إلى نظام هو ما يحكم الرؤية والفهم، وهو ما تعمل المؤسسة على قبوله، بوصفه نظاما، وطريقة في تصريف المعاني والأفكار؛ فالشعر اليوم غير شعر الرواد، والبناء اليوم غير بناء الأمس، والمعمار الشعري ليس هو معمار “القصيدة”، فالثاني مأهول ومسكون، والأول في طور البناء، هو بداية دائمة، ومساحات الفراغ، وما فيه من تجويفات وبياضات، هو أكثر مما فيه من امتلاء واكتظاظ.

ويبين الناقد أن ثمة مسافة بين شعر الرواد وشعر اليوم ينبغي أن نأخذها في الاعتبار قبل أن نحكم ونصنف ونستنبط ما في المقترحات الشعرية المغايرة والجذرية من اختراقات، ليس قياسا بما سبقها، حتى لا نسقط في معيارية ما سبق، بل بما حدث في هذه الأعمال والتجارب من انتهاكات، ومن جرأة في توسيع دوال الشعر، والخروج به من “القصيدة” إلى الكتابة، ومن الكلام إلى الصمت، ومن هيمنة اللغة إلى حضور الدوال المحايثة لها، مثل الفراغات والبياضات، والأشكال والرسوم.

ويؤكد بوسريف أن ما يحدث في توزيع الدوال، وما تتبادله من مواقع، وغيرها من العناصر البانية للنص، يتجلى فيها الوعي الكتابي، لا الإملائي الصوتي الذي هو من صميم “القصيدة”، التي لم يتخلص السابقون من المعاصرين من هيمنتها على ثقافتهم وتكوينهم، وعلى وعيهم الشعري الجمالي.

لغة الصمت

الناقد المغربي صلاح بوسريف يدعو إلى إعادة قراءة الشعر
الناقد المغربي صلاح بوسريف يدعو إلى إعادة قراءة الشعر

لقد أجبرتنا طبيعة المدينة الحديثة، حسب رأيه، على العيش في صخب الشوارع والأزقة والفضاءات العامة التي لا مساحة فيها للصمت والفراغ، هي مدن صاخبة، مساحات الصمت فيها لم تعد متاحة، إلاّ في الأطراف، أو بعض الأطراف التي يمكن فيها الصمت، وعندما نطفو على السطح نسمعه، نتأمله جيدا، ومن خلاله نستشعر قهر ما نحن داخله من ضجيج ولغط.

وانعكس هذا الوضع على كتابتنا، على الرواية والقصة والمسرح، كما انعكس على الموسيقى، “التي صارت في أغلبها امتلاء وأصواتا عالية، لا مساحة فيها للصمت أو السكون. التموج في البحر، هو في جوهره حركات يعقبها سكون، اللحظة التي نلتقط فيها السكون أو الصمت هي اللحظة ذاتها التي فيها ندرك إيقاع الصوت، إيقاع الموجات التي تنكسر على الشاطئ وتذبل أو تتلاشى”.

ويعتقد بوسريف أن الوجود على الأرض لم يعد وجودا بالصمت والفراغ، إذ فقد صفاءه وانسجامه لتهيمن الثرثرة والصراخ والضجيج والأصوات العالية الحادة والقاسية على السمع
والجسد، مؤكدا أن لغة الصمت أصيبت بالصراخ، بالتشوش والاضطراب لتتحول إلى صخب وثرثرة مجردة من كل حس إنساني وعاطفي، وتحولها إلى محض أصوات قاسية خالية من الحياة، لأنها فقدت الصمت الذي يمنحها الحياة.

ويرى الناقد أن الصمت هو نفسه البياض، ونقط الحذف، والعلامات والإشارات التي لا تُقرأ بل تُدرك، لأنها إيماءات توحي بشيء ما، لا تقوله أو تكتبه. “الصمت، بهذا المعنى، يقول ما تكون الكلمات غير كافية لترجمته، كما يقول دافيد لوبروطون، في كتابه ‘الصمت لغة المعنى والوجود‘، بل إنه مرادف للسر، وفي جوهره إبداع إذا ما ترك الكاتب الصفحة البيضاء، حيث القارئ ينتظر جوابا، وإذا ما استعمل كثيرا نقط التعليق أو الحذف كما هو الحال في الأدب الياباني”.

الشعر اليوم غير شعر الرواد، والبناء اليوم غير بناء الأمس، والمعمار الشعري ليس هو معمار "القصيدة"

يذكر أن صلاح بوسريف حاصل على شهادة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها في موضوع الكتابة في الشعر العربي المعاصر، وهو رئيس سابق لاتحاد كتاب المغرب، فرع الدار البيضاء، وعضو مُؤسِّس لبيت الشعر في المغرب.

من أعماله الشعرية “فاكهة الليل”، “على إثر سماء”، “شجر النوم”، “شهوات العاشق”، “شرفة يتيمة” في جزئين “خبز العائلة” و”حجر الفلاسفة”. وله في الكتابة عن الشعر تسعة مؤلفات منها “رهانات الحداثة، أفق لأشكال مُحتمَلَة”، “المغايرة والاختلاف في الشعر المغربي المعاصر”، “مضايق الشِّعر: مقدمات لما بعد القصيدة”، “الكتابي والشفاهي في الشعر المغربي المعاصر”، “ديوان الشعر المغربي المعاصر” بالاشتراك مع الشاعر مصطفى النيسابوري، و”حداثة الكتابة في الشعر العربي المعاصر”.

14