"سونغ غرافيتي" تجسيد بصري لكلمات أغان خالدة

دمج الغرافيتي بالغناء يضع المستمع أمام تأويلات جديدة وسياقات مختلفة للأغاني.
الخميس 2020/06/04
رسوم مدمجة بكلمات أغان لتقديم الدعم في مواجهة الوباء

خرجت طبيبة أطفال مصرية من الجدلية الدائرة منذ فترة حول الغناء العربي وما إذا كان في طور اضمحلالي أم محض تطوّر طبيعي يتلاءم وروح العصر. الطبيبة التي تجيد رسم الغرافيتي كان لها رأي غير مباشر، يمجّد الكلمة ويرسمها في سياقات مختلفة فيمنحها حيوات جديدة، تجعل المستمع يرى أغنيته المفضلة للمرة الأولى.

القاهرة – تُثبت الطبيبة المصرية ندى صلاح عامر التي ليست ذات صلة بالغناء سوى حب الاستماع، بأن الكلمة هي الأساس، هي من يخلق للأغنية الخلود، باستحضارها من وقت إلى آخر، أو محوها مهما حقّقت من شهرة مؤقتة.

الرأي نفسه أفصح عنه الموسيقار المصري الشهير هاني شنودة في حوار سابق مع “العرب”، حيث وضع صانع ألحان الكلمات في مرتبة أعلى من صنعته، وقال آنذاك “الكلمة هي الأساس، هي التي تكتب للأغنية الخلود”.

وصفحة “سونغ غرافيتي” التي يتابعها نحو ربع مليون شخص على فيسبوك، مدّدت حالة خلود الكلمة بتعدّد السياقات، فلم تجعل كلمة سيقت في أغنية حب مقتصرة على ذلك الموقف، بل تعدّتها لترسمها في لوحة تعبّر عن حالة مجتمعية مثل مواجهة الوباء أو التكاتف.

ووظّفت الطبيبة الشابة الأدوات الكثيرة لتعبّر بها من جديد عن كلمات الأغنية، بصورة جعلت الكثيرين من متابعيها يتساءلون كيف خطرت لكم تلك الفكرة؟ أو ترك تعليق “كل مرة أرى الأغنية أشعر أني أتعرّف عليها للمرة الأولى”.

ومن ثم فالحالة التي حقّقتها “سونغ غرافيتي” ليست خاصة، بل تمتدّ لتفتح إشكالية الكلمات الغنائية، ودمج فنون عدّة في عملية تكاملية، والأهم هل الغناء محض تسلية أم يمكن أن يصبح وجبة كاملة تستثير المشاعر والعقل؟ وهل انطلاقا من ذلك نشهد عصر اضمحلال للغناء أم هي حلقة جديدة من حلقات سلسلة ممتدة طويلة؟

أسّست طبيبة الأطفال ندى الصفحة قبل خمسة أعوام، استجابة لحالة تنتابها كلما استمعت إلى أغنية ما، تنساب مشاعرها معها لتصنع لوحة في مخيلتها، ثم تنقلها إلى الورق.

ورغم أن الطبيبة لم تحقّق في البداية الانتشار المرجو استمرت في ممارسة هوايتها، وبمرور الوقت، وتنوّع المواضيع، واستحضار الحالة في إطار حياتي محيط حاكم مثل فايروس كورونا، أصبح للصفحة الآلاف من المتابعين.

لوحة فنية متكاملة

ندى صلاح عامر برهنت أن كلمات الأغاني ليست عبارات عابرة، ندندنها وننساها، بل يمكنها أن تتحوّل إلى لوحة فنية متكاملة
ندى صلاح عامر برهنت أن كلمات الأغاني ليست عبارات عابرة، ندندنها وننساها، بل يمكنها أن تتحوّل إلى لوحة فنية متكاملة

استطاعت “سونغ غرافيتي” أن تبرهن على أن كلمات الأغاني ليست عبارات عابرة، ندندنها وننساها، لكن يمكن أن تتحوّل إلى لوحة فنية متكاملة، ويمكن أن تستدعي مشاهد سينمائية ذات انطباعات راسخة في الوجدان الشعبي، فتخلق حالة متكاملة، يتعاطى معها المتابع بفتح عينيه وإعمال عقله أكثر، وذلك بمشاركته في تأويل اللوحة وفق انطباعاته، لا أن يغلق عينيه ويسرح، كما هو المعتاد.

ولإثارة حالة الاندماج تلك حرصت الطبيبة على رسم وجوه صماء دون ملامح محدّدة، لحضّ كل مشاهد على أن يتخيّل نفسه جزءا من الحالة، كما باتت الصفحة مساحة للتفكير والنقاش والتأويل، حتى أن بعض الرسومات خلقت جدلا استوجب التدخل.

نشرت الطبيبة-الفنانة صورة للمرأة المعصوبة العينين رمز العدالة، وفي يديها ميزان غير منضبط، على هيئة صورتين، الأولى كفة الميزان في صالح شخص وحيد فيما خفت بآخرين أكثر منه، عليها عبارة “إن كان الله معك فمن عليك”، والأخرى كفة فارغة هي الفائزة وعليها عبارة “وإن كان عليك فمن معك”.

البعض هاجم الصورة، على اعتبار أنه لا يمكن إقران لفظ الجلالة برسمة توحي للوهلة الأولى بالظلم، حيث إن كفتي الميزان غير متساويتين، وآخرون أدركوا المعنى مباشرة ونالت إعجابهم، لكن لقطع الجدل، قامت الصفحة بحذفها وشرحت المغزى وقالت “تقديرا مني لعدم إدراك كل الناس المغزى، فقد قرّرت حذفها منعا لأي سوء فهم”.

وفي لوحة أخرى لأغنية “أنا لك على طول” رُسمت فتاة في المنتصف فيما القمر يتغيّر على جانبي الصورة في دورته المعتادة، ولقد استثارت الصورة غير المباشرة المتابعين لقراءتها، البعض اعتبرها دليلا على ثبات المحبة على عهدها وانتظار حبيبها مهما تغيّر الزمن، والبعض قالوا إن التغيير للشخص نفسه وليس الزمن، “القمر شكله ثابت، مكان رؤيته هو الذي يحدّد شكله والإنسان كذلك مزاجه وظروفه التي يمرّ بها تؤثّر على نظرته للأشخاص حوله، لكن هي قمر في تمامها ثابتة وحبها إليه ثابت مهما خدعته عينيه وأوهمته بالنقص”.

فيما كانت الرسامة تقصد شيئا آخر بانطباع مختلف “هو القمر دائما غير مكتمل الوجود في حياتها، لكنها البدر الذي حين يوجد يكون كاملا”، ولا يقف الأمر عند التأويلات بل تستخدم الطبيبة الأرقام والعمليات الحسابية في رسوماتها.

و”سونغ غرافيتي” لم تأت بتقليد جديد، حيث ارتبط ازدهار الغرافيتي مع ثورة يناير 2011 في مصر بتدوين عبارات الأغاني الوطنية والثورية أو الهتافات، غير أن التغيير الحالي والذي لا تعبّر عنه سونغ غرافيتي وحدها، هو الميل نحو التكامل والخروج بتأويلات أخرى عبر الرسم، بحيث لا يصبح مجرد تكرار ومدّ ليشمل كافة المواضيع والأحداث.

وقد لجأ بعض المطربين إلى إصدار فيديو كليب لأغانيهم عبارة عن مجموعة من اللوحات الفنية التي تضيف بعدا آخر للأغنية، منها ما طرحه المطرب الشاب محمد محسن قبل أسابيع “عطشان يا صبايا” عبر إعادة تقديمه للفلكلور المصري مع مجموعة لوحات للفنان طاهر عبدالعظيم.

رد اعتبار

الفنان الشاب محمد محسن أعاد غناء الفلكلور المصري في "عطشان يا صبايا" عبر مجموعة من لوحات الفنان طاهر عبدالعظيم
الفنان الشاب محمد محسن أعاد غناء الفلكلور المصري في "عطشان يا صبايا" عبر مجموعة من لوحات الفنان طاهر عبدالعظيم

لعبت الفرق الغنائية المستقلة “الأندرغروند” دورا لافتا في رد الاعتبار للكلمة على اعتبارها العامل الرئيسي في الأغنية، خلال السنوات الماضية، بعدما كان اسم المطرب أو اللحن صاحب السطوة.

وحقّقت بعض أغاني الفرق المستقلة انتشارا واسعا، دون أن يكون مؤدّوها من أصحاب الشهرة الواسعة، معتمدة على مواضيع متنوعة بنبض يعبّر عن الشباب وتخوفاتهم واضطراباتهم، فنقلت مفهوم الأغنية من قطعة منمقة، إلى حالة قد لا تكون أكثر من اضطراب وقلق وخوف.

وأكّد الشاعر الغنائي ضياء الرحمن الذي كتب أغاني كثيرة لفرق “الأندرغروند”، أن حجر الأساس في الأغنية الكلمة، إما أن تكون متينة أصيلة تمرّ عليها السنوات فتزداد لمعانا، وإما أن تكون زائفة فتنسى وتزول حتى إذا أصبحت “ترند” لأيام وأسابيع.

وكتب ضياء أحد أشهر أغاني “الأندرغروند” “إنسان” لفرقة “بلاك تيما”، وحقّقت انتشارا واسعا، ولجأ الكثير من الفنانين إلى تصميم غرافيتي لكلماتها، بل وطبعت على الملابس والمذكرات وغيرها من الأدوات منذ ظهورها.

وقال ضياء لـ”العرب”، “تنتابني سعادة كبيرة جدا حين أرى كلمات أغنيتي مُعاشة، لا أحصل على مقابل حقوق ملكية، ولا أعترف بذلك، أعتبر أن الفن خلق للجميع، فأنا لم أصنع شيئا يُقيّد، بل إن حياتي في انتشاره وإعادة إنتاجه”.

ورغم ذلك، لا يعتبر ضياء أن دوره كشاعر غنائي تنويريا، لأن الحديث يدور حول الأدوار العميقة للفن في الاستهلاك فقط، ولا يجد نقصا في الحديث عن أن دوره في التسلية والترويح عن الأنفس، وليس صناعة فكر، حتى الحالة التي يكتبها في أغانيه وتحمل فكرا وفلسفة فهي من صنع الناس الذين ألهموه بها، فلعب دوره كوسيط في كتابتها لتعود إليهم مغنّاة.

وسواء كان دور الغناء محض الترويح والتنفيس أو أكبر، فإن الدمج الذي يحدث كل يوم، وإضافة عوالم جديدة تعيد إنتاج القديم، وتدمجه مع الآني، تعكس طفرات تحدث، ويُتوقّع أن تؤثّر وتسود، حتى وسط الكثير من الومضات التي تظهر وسرعان ما تختفي، خصوصا تلك غير المدعومة بكلمة تستند عليها في رحلتها عبر الزمن.

16