حين يمنح الكاتب قلبه للمحتل

النخب الثقافية لا تقف دائما في صف أوطانها فهناك منها من يخون وطنه وشعبه في حركة غريبة.
السبت 2019/12/07
مبدعون متواطئون

في كل الحروب، وفي كل المحن، يختار الكاتب الوقوف بجانب الوطن، وذلك هو الأمر المطلوب، بحكم ارتباط الكتابة بالانتصار لقيم العدالة والسلم. لكن الأمر ليس كذلك دائما؛ ففي كل الحروب والأزمات ثمة أيضا من يختار الجبهة الخطأ، عن انتهازية أو سوء تقدير. كما ثمة أيضا من يختار الإقامة بين الجبهتين، في انتظار زوال الغيوم.

وقد يبدو مفاجئا، على سبيل المثال، أن يحمل تراث الشاعر المغربي محمد بوجندار، وهو المعروف بوطنيته، قصيدة له نشرها بجريدة “السعادة” يهنئ فيها الجنرال ليوطي، الحاكم العام الفرنسي بالمغرب، خلال لحظة الاستعمار، بمناسبة ترقيته بعد انتصار فرنسا في الحرب العالمية الأولى.

ولم تكن هذه الحالات معزولة، إذ شكل الكُتاب والصحافيون الذين ينشرون بجريدة “السعادة” جيشا كبيرا ضم خمسمئة كاتب وصحافي. وإن كان من الصعب وغير اللائق تخوين الجميع، إذ كان من بينهم ذوو الأيادي البيضاء.

أما جريدة “السعادة”، التي كانت تشكل لسان سلطات الاستعمار الفرنسي بالمغرب، فستواصل عملها في تجميل الاحتلال لتتوقف مع لحظة استقلال البلد، بعد أن أقفلت أكثر من خمسين سنة من عمرها. أما الأمر الطريف فهو أن المجموعة الورقية الكاملة من الجريدة الموجودة بالمكتبة الوطنية للمملكة المغربية لم تسلك من أيادي حفدة كُتابها، الذين اعتادوا اجتزاء كل المواد التي قد تُذكر القارئ بما اقترفه الأجداد.

اختيار غيرها هو الطريق الأقصر إما إلى الانتحار الرمزي، وإما إلى غياهب النسيان. وكلاهما مرّ

والأكيد أن هذه الحالات لا تخص المغرب وحده. بل تهم كل الدول التي خضعت للاحتلال. ففي كل لحظة إنسانية هناك من يكفر بالوطن. ولعل ما حدث بالجزائر قد يكون النموذج الأكبر، خصوصا مع طبيعة التواجد الفرنسي الذي جعل من الجزائر مقاطعة فرنسية. ولذلك لم يكن غريبا أن يتماهى العديد من المثقفين الجزائريين مع الوافد الجديد، الذي طالت مدة تواجده وتعددت أشكال تثبيت حضوره. وبذلك سيخرج الجزائري فرحات عباس، الذي سيصير أول رئيس للجزائر بعد استقلالها، بمقاله الشهير والصادم، في منتصف ثلاثينات القرن الماضي، والذي يحمل عنوان “فرنسا هي أنا”.

أما الأمر المفارق فهو أن فرحات عباس سيعود بعد سبع سنوات إلى طي هذه الصفحة، ليتكلف بتحرير “بيان الشعب الجزائري”، الذي يشكل منعطفا على مستوى مطالب الحركة الوطنية بالجزائر.

الباحث الفرنسي جيراد لوازو يعود في كتابه الهام “التعاون الأدبي”، الصادر عن جامعة السوربون، إلى تحليل الطرق والوسائل التي اعتمدها الألمان لتوريط النخب الأدبية والثقافية الفرنسية في التماهي مع احتلالهم للبلد. وهو الأمر الذي تَم بشكل مبكر، سابق على لحظة الاحتلال، خصوصا من خلال تتبع الحركة الأدبية الفرنسية وكواليسها، لِيَلي ذلك العملُ المنظم الذي كانت تتولاه البنى التابعة للاحتلال الألماني، وعلى رأسها “المكتب الأدبي”، الذي كانت مهمته إشاعة الثقافة والأيديولوجيا النازية.

بعد سنوات على صدور كتاب جيراد لوازو، سيختار الصحافي الأميركي ألان رِدين فتح صفحات أخرى من نفس الملف، من خلال كتابه “الحياة الثقافية بباريس المحتلة”، حيث يعود ردين إلى البحث في التفاصيل الخفية التي كانت تحيط بعلاقة عدد من الأدباء والفنانين الفرنسيين بسلطات المحتل النازي.

مارغاريت دوراس كانت تتعاون مع المحتل
مارغاريت دوراس كانت تتعاون مع المحتل

وبذلك، في اللحظة التي اختار عدد من الأدباء الوطنيين الفرنسيين المنفى أو الكتابة بشكل سري، فضل الكثيرون مدَّ أياديهم للمستعمر الجديد. وإن كان أغلبهم لم يكن مجبرا على ذلك. وتبدو اللائحة طويلة بشكل تجعل من الحالة الفرنسية نموذجا استثنائيا بامتياز، يحتاج إلى أكثر من دراسة لفهم دواعي تخلي الكُتاب عن قضيتهم وهم الذين يُفتَرض فيهم أن يكونوا في جبهة الكتابة عن الوطن، خصوصا في لحظات المحن.

وستكون على رأس هؤلاء الكاتبة الشهيرة مارغاريت دوراس، التي كانت تتولى حينها أمانة سر اللجنة المكلفة بمنح الورق الخاص بالطباعة للمقاولات. وكان عمل اللجنة صيغة خفية لممارسة الرقابة على الكتب الصادرة بفرنسا.

لن تبقى دوراس وحدها في جبهة التعاون مع المحتل. إذ ستلتحق بها جوقة أخرى. ابتداء من الكاتب والضابط البحري لويس بول أندري، الذي سينتهي به المآل مقتولا داخل غابة مونتروغ، إلى جاك شاردون الذي وصف الاحتلال الألماني، في اليوم الأول لدخوله، بالناعم، إلى ألفونس دي شابريون الذي كان يَعتبر هتلر إلهًا جديدا.

ولن يظل الناشرون الفرنسيون بعيدا عن المشهد، حيث ستُعد النقابة الوطنية الفرنسية للناشرين، بشكل مشترك مع سلطات الاحتلال النازي، اللائحةَ الشهيرة التي عُرفت باسم لائحة أوطو، كناية عن أوطو أبتز، السفير الألماني بباريس.

والأكيد أن الحالة الفرنسية لن تشكل الأخيرة من نوعها. ذلك لأن الحرب هي الحرب، ولأن الأزمات هي نفسها، وإن اختلفت السياقات، وأيضا لأن لكل كاتب مزاجه وقدرته على الالتزام ومنطقه الخاص في اختيار جبهته. وإذا كان الوضع الطبيعي هو اختيار جبهة الوطن، فإن اختيار غيرها هو الطريق الأقصر إما إلى الانتحار الرمزي، وإما إلى غياهب النسيان. وكلاهما مرّ.

15