مي تلمساني: أكتب الرواية وغوايتي الكبرى هي السينما

الروائية المصرية تحلم بكتابة رواية لها نفس طويل لكنها تخشى أن تكون أول من يمل قراءتها.
الجمعة 2020/03/13
الكاتب لا يستطيع تجاوز ذاته إلا في حدود ضيقة جدا

تُعتبر مي التلمساني أحد الأصوات الروائية التي تنسج مشهد الكتابة الروائية الجديدة بمصر. وبالإضافة إلى اهتمامها بالكتابة السردية، أصدرت مي التلمساني عددا من الترجمات في مجالات النقد والسينما، من بينها “المدارس الجمالية الكبرى”، و”السينما العربية من الخليج إلى المحيط”. تعمل مي التلمساني في تدريس السينما والدراسات العربية بجامعة أوتاوا الكندية.

تتميز النصوص الروائية لـ مي التلمساني باعتمادها الكبير على التفتيت وعلى المقاطع. وعما إذا كان ذلك يشكل بحثا عن هامش تجريبي لتجاوز جانب من تقليدية الرواية، تعترف التلمساني بكونها تحلم بكتابة رواية لها نفس طويل، لكنها تخشى أن تكون أول من يمل قراءتها! وتضيف أن هناك دائما تلك الرغبة العنيدة في محاكاة الكبار في عظمتهم وابتكارهم وتحديهم للزمن. وهناك في الوقت نفسه وعي كامل بأن الشرط الأدبي والتاريخي يفرض التغيير. وتعتبر مي التلمساني أن المقطع هو الوحدة الفنية التي تجد نفسها قادرة على اللعب معها بحرية، حيث يمكن إعادة كتابة المقطع مرات عديدة، ويمكن تغيير موقعه من الرواية بحرية، ويمكن التنازل عنه بيسر أثناء الكتابة وأثناء القراءة أيضا. وبالتالي، فهو يتيح قدرا من الارتحال داخل النص، ويسمح بالتجريب على المستوى البسيط وعلى مستوى التشكيل العام للكتاب. كما تعتبر التلمساني المقطع سلاحا فعالا ضد السأم. إذ يهمها كثيرا أن يشعر القارئ بمتعة القراءة.

وبخصوص الاختلاف الذي يطبع نصيها الروائيين “هليوبوليس” و”دنيا زاد”، من حيث الكتابة، وإن كان هذا الاختلاف يشكل بحثا عن تجاوز نفسها، تؤكد مي التلمساني أن الكاتب لا يستطيع تجاوز ذاته إلا في حدود ضيقة جدا. وتعتبر أن أحد الهوامش الممكنة لتجاوز وصفة الكتاب الأول، إذا نجح، تكمن في محاولة الخروج من أسر الوصفة باقتراح وصفة غيرها. في “دنيا زاد”، كما تؤكد التلمساني، تحضر “الحدوتة” الذاتية والكتابة القائمة على أصوات مختلفة والتي تجد صدى لدى القراء. في حين، يتسم نص “هليوبوليس”، بالإضافة إلى روح السيرة الذاتية، بإطلالته على التاريخ ومحاولته محاكاة أساليب مختلفة في الكتابة العربية. وإن كان ما يجمع بين النصين هو كونهما يعتمدان على المقطع كوحدة تكاد تكتفي بنفسها في عالم النص.

السينما موئلا

روائية تبحث عن تجاوز نفسها
روائية تبحث عن تجاوز نفسها

لا تقف تجربة مي التلمساني عند الكتابة السردية. إذ يشكل النقد السينمائي نافذتها الأخرى على مستوى الكتابة. وعن تدبيرها لهذا التعدد، تؤكد التلمساني أن الكتابة هي حالة قفز مستمر بين العوالم المختلفة التي تمثل خبرة معرفية لدى الكاتب. كما تعترف بأن السينما بالنسبة إليها هي غواية ومهنة لم تفلح في الالتحاق بها، وبأنها تفكر أحيانا في أن السينما، التي تصنع جانبا هاما من خيالها، هي مصدر الحقيقة الممكنة، مثلها مثل الأدب. لكنها عندما تكتب بمنطق الأدب، تتمنى، كما تقر، ألا تكون الرواية صالحة للاقتباس سينمائيا. لأنها تفقد بذلك الشرط الفني الأدبي. ورغم إدراكها للتداخلات الكثيرة بين الفنون إلا أن مي التلمساني تظل مقتنعة بخصوصية الوسيط. إذ أن الكلمة لها صوت ولها صورة مفترضة، لكن الصورة تتجاوز بكثير حدود التعبير اللغوي.

اختارت مي التلمساني الإقامة بمونتريال بكندا منذ نهاية تسعينات القرن الماضي، قبل انتقالها إلى العاصمة أوتاوا. وعن سؤال يخص ما الذي يمكن أن تمنحه مدن متعددة كمونتريال وأوتاوا لتجربتها على مستوى الكتابة والحياة، تؤكد التلمساني أن هذه المدن وهبتها فرصة رؤية أشمل إلى فكرة “الحياة معا”، على الرغم من التعدد الثقافي واللغوي والديني الكبير الذي يميز المدن الكبرى في كندا. وستدرك التلمساني مع الوقت أن السلام الذي يعم بين الديانات والأعراق المختلفة في كندا يتأسس على احترام مبادئ المواطنة ودولة القانون وقواعد الدولة العلمانية الحديثة، معتبرة ذلك تجليا للحرية التي هي أجمل ما يمكن أن ينعم به الكاتب المهاجر مثلها والذي يعاني بلا شك من تكبيل الحريات في وطنه الأم.

وبخصوص اندماجها في المشهد الأدبي بالكيبك، تقر مي التلمساني بكونها لا تستطيع إدعاء ذلك. إذ أنها تكتب بالعربية للجماعات المهاجرة من أصول عربية والتي لا تمارس قراءة الأدب بما يكفي لتشكيل جمهور عريض من القراء. وذلك بالإضافة إلى إشكالات توزيع الكتاب العربي على مستوى العالم. بينما سيشكل صدور ترجمة كتابها “للجنة سور” بكندا مؤخرا المرة الأولى التي تشعر فيها التلمساني بقدر من الانتماء إلى المشهد الأدبي الكندي، بعد عشرين عاما من الهجرة.

عن سؤال يخص ما تضيفه الترجمات المتعددة لنصوصها على مستوى تجربتها الإبداعية، تختزل مي التلسماني الأمر في السفر بمعناه الجغرافي، أي الانتقال إلى بلدان لم تزرها من قبل بدعوة من جامعات أو مؤسسات مدنية. وهو أمر مهم بالنسبة إليها وإلى تجربتها في الكتابة. وإن كانت تعتبر نفسها ملولة، لا تكاد تستقر في مكان إلا وتتوق لمغادرته. كما تشير التلمساني إلى الإحساس الجميل باتساع رقعة القراء المجهولين الذي يمنح الكاتب ثقة في مهنته. وإن كانت لم تعد تبحث عن القارئ كما كانت تفعل منذ سنوات، إذ أصبحت تثق في وجوده الافتراضي، وهو ما يزيدها إيمانا بأن ما تفعله لا يذهب سدى. وتستطرد مي التلمساني قائلة “في كل بلد أزوره، ألتقي بناس لا أعرفهم ولديهم الرغبة الصادقة في التعرف علي وعلى عملي، يجذبهم عادة كوني كاتبة عربية تتحدث الفرنسية بطلاقة ولا ترتدي غطاء رأس!”.

سؤال التغيير

التلمساني.. تجارب أدبية متعدّدة
التلمساني.. تجارب أدبية متعدّدة

بعد ثورة يناير، أطلقت مي التلمساني، رفقة آخرين، مبادرة “مصر دولة مدنية”. وعن سؤال يخص دور الكاتب المفترض على مستوى التغيير، تقر التلمساني بأن هذا الدور يبدأ من الأدب وينتهي إليه. كما تعتبر أن طموحها الأكبر هو تثوير الكتابة على قدر الإمكان، وتقديم رؤى وأساليب تخصها ككاتبة، رغم أنها لا تتصل بالسياسة ولا تخضع لها. أما في ما يخص مبادرة “مصر دولة مدنية” فقد أطلقتها كأكاديمية وكمواطنة مصرية قبل أن تكون كاتبة. وتشير مي التلمساني إلى أن المبادرة جاءت بعد أيام من سقوط مبارك حين اتضح لها من قراءتها للأحداث أن المجلس العسكري وجماعة الإخوان المسلمين، وهما أقوى فصيلين على الساحة السياسية، قد اتفقا على توزيع السلطات بينهما. وكانت مثلها ومثل الملايين غيرها تؤمن بضرورة خروج مصر كدولة من مأزق الثنائية السياسية الحاكمة، وهي في جوهرها ثنائية مدعومة من الغرب ومفروضة على العالم العربي منذ عقود. بينما كان الهدف من المبادرة هو التوعية بأهمية سلوك الطريق لتأسيس دولة مدنية حديثة، لا تخضع لسيطرة المؤسسة العسكرية وترفض سيطرة الإسلاميين والمؤسسات التابعة لهم، سواء كانت جماعات أو أحزابا منظمة أو مؤسسات دينية كالأزهر، على مقاليد السلطة.

الاسم وظلاله

يحيل اسم التلمساني على الأصول الجزائرية للكاتبة، وهي المولودة بالقاهرة والمقيمة منذ سنوات خارج مصر. وتعتبر مي التلمساني هذا التعدد ثروة. وتستطرد قائلة “لكننا لا ندرك كم نحن أثرياء إلا لاحقا، حين نكتسب مناعة ضد دعاة الوحدانية القومية والثقافية”. كما تشير التلمساني إلى أنها كانت تنساق، في طفولتها وشبابها، وراء دعوات الهوية الواحدة وتبحث عن حقيقة واحدة تفسر وتشرعن علاقتها بنفسها وبالآخرين. كانت حينها طالبة في مدرسة راهبات فرنسية، من أسرة مسلمة تتحدث العربية، وكانت على علم بأصولها المغاربية والتركية (من خلال جدتها لأبيها). لكنها كانت تغتاظ، كما تقر، حين يعتبرها البعض “غير مصرية” أو “مصرية مشكوك في مصريتها”، وكانت تنبري للدفاع عن تلك الهوية باعتبارها أحادية راسخة. ثم اكتشفت مي التلمساني، قبل الهجرة بسنوات، أن هذا التعدد هو ما يميز الجميع وأن الفرق بينها وبين الآخرين هو درجة الوعي بالتعدد الثقافي واللغوي والعرقي ودرجة القبول أو الرفض لهذا التعدد. الآن وقد أصبحت أيضا كندية بحكم الانتماء القومي فقد أضيفت لهوياتها هوية جديدة تسعد بها وتنتمي إليها.

وتستطرد التلمساني قائلة “أعتبر نفسي إذن كاتبة، امرأة، أمّا، أستاذة جامعية، مصرية، عربية، كندية، فرانكوفونية، من أصول جزائرية مغاربية، يسارية ومرتحلة عبر الحدود والثقافات، أحرص على ألا تطغى صيغة أو هوية على الصيغ والهويات الأخرى، لكني بلا شك أعيش هذ التعدد بسلام وأتقبله بلا صراعات كبرى”.

15