الوباء ضيفا ثقيلا على المؤرخين

“كان الموت موتَ بغتة وفجأة، حيث يرى الإنسان أخاه يمشي صحيحا ويسقط ميتا… وبنفس ما ينقاس به الإنسان فيتغير حاله وتتشوه خلقته وتقع اللكنة في لسانه فيلجلج مقاله.. حتى كان البدوي يأتي يتسوق للحاضرة فلا يرجع إلى أهله إلا ميتا محمولا على الدواب. وخدمة الزرع في الفدادين إن كانوا جماعة لا يرجع لأهله سالما منهم إلا القليل، حتى حكي لنا أن ابن مولانا أمير المؤمنين بعث يوما لحصاد الزرع نفرا كبيرا، مات منه أربعون رجلا في يوم واحد، بل في ساعة“.
جزء كبير من هذا الوصف يتقاطع مع اللحظة المأساوية التي يعيشها الكون في الوقت الراهن. وإن كان النص، الذي خطه المؤرخ المغربي العَرْبي بن عبدالقادر المشرفي في مؤلفه “أقوال المطاعين في الطعن والطواعين”، يهم كارثة أخرى همت، خلال منتصف القرن التاسع عشر، العديد من الدول، من بينها المغرب وتونس وفرنسا والولايات المتحدة وأميركا الجنوبية وغيرها.
وإذا كانت الكوارث الإنسانية تختلف من حيث سياقاتها وأسبابها وحجمها، فإن ما يجمعها هو حضور شبح الموت الجماعي الذي لا يميّز بين أحد. إذ نجد أن عددا كبيرا من علماء المغرب والعالم العربي كانوا ضمن قوائم الذين توفوا بسبب الأوبئة، ولعل من بينهم، على سبيل المثال، عبدالوهاب السبكي، صاحب كتاب “جزء في الطاعون”، وشهاب الدين أحمد التلمساني مؤلف كتاب “الطب في دفع الطاعون”، والرحالة المغربي الشهير أبوسالم العياشي، المعروف برحلته “الرحلة العياشية إلى الديار النورانية”، والسفير محمد بن عبدالوهاب بن عثمان، الذي اشتهر بنص رحلته “الإِكْسِير في فكَاك الأسير”، والسفير إدريس الوزير العمراوي، صاحب رحلة “تحفة الملك العزيز بمملكة باريز”.
وبشكل مفارق لحجم الدمار الذي كانت تخلفه الأوبئة بمختلف أشكالها المميتة، لا يكاد مجمل الإنتاج العربي الذي يتناولها والصادر منذ بداية الطباعة إلى اللحظة الحالية، يتجاوز الخمسين عنوانا، بالاستناد إلى قواعد المعطيات المتوفرة. فيما تنحصر مجمل العناوين التي تتناول الموضوع، والتي يغطيها “معجم طبقات المؤلفين على عهد دولة العلويين” لعبدالرحمن ابن زيدان والذي يحصر الإنتاج المغربي خلال فترة تمتد على سبعة قرون، في الستة مؤلفات فقط. وذلك في الوقت الذي يوفر موقع غاليكا التابع للمكتبة الوطنية الفرنسية ما يقارب الستين ألفا من أندر الكتب والوثائق الفرنسية المرقمنة، خارج الإصدارات الجديدة التي تتناول الموضوع.
أما أغلب ما كتب في الموضوع، على مستوى التراث التاريخي، فيتسم بسيادة تصوراته الدينية والفقهية، التي تفتح الباب أمام التمثلات الغيبية، والتي تحول بالتالي دون الوقوف عند الظاهرة في حد ذاتها أو تؤرخ لها. وهو ما يعكسه النقاش الطويل الذي خص قضايا ثلاث على الأقل، كان قد وقف عندها مؤلَّف هام وهو “تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب”، الذي كان قد أصدره المؤرخ المغربي محمد الأمين البزاز، قبل حوالي عشرين سنة.
أما القضية الأولى فتهم مفهوم الأوبئة، التي كانت تعتبرها كثير من الكتابات عقابا سماويا موجها إلى الكفار، مستندة في ذلك إلى الحديث النبوي “أتاني جبريل عليه السلام بالحمى والطاعون فأمسكت الحمى بالمدينة وأرسلت الطاعون إلى الشام”.
فيما تخص القضية الثانية جواز مغادرة الأرض التي يصلها الوباء، حيث فتح السؤال الباب أمام جدل استمر طويلا، تقاسمته الكتابات التي تدعو إلى الوقاية والفتاوى التي تعتبر الوباء قدرا لا يجب الفرار منه. وهو الجدل الذي تعكسه كثرة الكتابات في الموضوع، ومنها رسالة “سلك الدرر في ذكر القضاء والقدر” للصوفي أحمد ابن عجيبة، والتي يقر فيها أنه “من الواجب على العبد أن يسكن تحت مجاري الأقدار وينظر ما يفعله الواحد القهار”. وذلك بالإضافة إلى رسالة “هل يجوز لمن حل الطاعون ببلدهم أن يغادروه” لأحمد السجلماسي اللمطي، و”رسالة في أحكام الطاعون وفيمن حل ببلادهم هل يسوغ لهم الخروج أم لا” لمحمد الرهوني، وغيرها من الرسائل التي تتقاسم نفس العناوين ونفس التصورات الجاهزة، التي تغلق الباب أمام أي اجتهاد.
أما القضية الثالثة فتخص تحريم الحجر الصحي الذي كان قد تعرف عليه المغاربة من خلال ما كتبه عدد من السفراء، ومنهم ابن عثمان في رحلته المعروفة “الإِكْسِير في فكَاك الأسير” التي همت إسبانيا، وذلك قبل أن يتم اعتماد الحجر على مستوى البلد. ويشير في هذا الإطار الباحث محمد الأمين البزاز إلى موقف المؤرخ المغربي الناصري، صاحب كتاب “الاستقصا” الشهير، حيث يقر الناصري بأن “الكرنتينة”، وهو الاسم الذي كان يعرف به الحجر حينها، “تشتمل على مفاسد كل منها محقق، تعين القول بحرمتها”.
والغالب أن عجز الكتابات العربية عن تمثل الأوبئة في بعدها التاريخي، بعيدا عن الذهاب بها إلى منطقة الفقه وتسييجها بالسؤال الديني، يرتبط بطبيعة تمثل الكتابة التاريخية وأسئلتها الخاصة. وهو الأمر الذي يعكسه على سبيل المثال السياق المغربي. إذ ظل الإنتاج في مجال التاريخ، خلال مراحل طويلة، محدودا، وذلك بشكل مفارق للتمثل الذي كان سائدا عن علم التاريخ باعتباره، كما يصفه عدد من أعلامه، حقلا يحظى بأفضلية خاصة. وستكرس مختلف الإصلاحات التي اهتمّت ببرامج التدريس، هذا الغياب، ومنها الإصلاحات التي حملها منشور السلطان محمد بن عبد الله، الصادر خلال نهاية القرن الثامن عشر.
ويختزل المستشرق الفرنسي ليفي بروفنصال هذا الوضع، بشكل دقيق، في سياق حديثه عن اهتمام العالِم المغربي بالتاريخ :”ومما يزيد العالِم التشبث بهذا الرأي هو أنه لم ير، مدة طلبِه للعلم، شيخا من شيوخه حثَّه على دراسة ماضي المغرب، سواء السياسي منه أو الأدبي، فكيف والحالة هذه، ألا يولي ظهره لمادة لم تُخصَّص لها ولو ساعة واحدة من تلك الساعات العديدة المخصصة للنحو أو للفقه مثلا؟”.
والنتيجة، أن العالم العربي يكتفي الآن باستهلاك الآلاف من القصاصات الصحافية التي ترصد، خلال كل دقيقة، عدد الوفيات والمصابين الذي يخلفه وباء كورونا، مفضلا موقع المتفرج، وعاجزا عن الإسهام العلمي في الحد من الكارثة. وذلك بعد أن فوّت مؤرخوه تدوين مآسي الأوبئة بعيدا عن فقه الفتاوى!