قراصنة الكِتاب يجولون بيننا

التقرير الذي أعدته جمعية الناشرين الإيطاليين، يكشف عن أرقام مذهلة تخص قرصنة الكتب على مستوى النيت، إذ تصل عمليات القرصنة إلى ثلاثمئة ألف عملية يوميا، مخلفة خسارات مالية تتجاوز الخمسمئة مليون أورو سنويا.
السبت 2020/03/07
الكتب المقرصنة تهدد الناشرين

في اللحظة التي كنتُ  أهمّ بتوديع نائبة مدير المنظمة العالمية للملكية الفكرية، بعد اجتماع طويل جمعني بها أثناء تحملي لإدارة الكتاب، فاجأنا شاب بمكتبته المتنقلة عارضا علينا جديد الأدب العالمي بعشرة دولارات، مع إمكانيات الخصم. كان المشهد طريفا وصادما في نفس الوقت، لأن الشاب اختار أن يأتي ببضاعته المقرصنَة إلى باب عقر المؤسسة التي يُفترض فيها أن تحمي الكتاب.

والحقيقة أن ذلك لا يشكل أمرا منعزلا. بل إن مشهد الشبان الذين صاروا يجتاحون كثيرا من شوارع مدن المغرب بكتبهم المقرصنة صار جزءا من طقوس هذه المدن. وإذا كان الأمر يشكل تهديدا لصناعة الكتاب، فإنه يسائل، في نفس الوقت، أصحاب “نظرية” أزمة القراءة بالبلد. ذلك لأن الإقبال على الكتب، وإن كانت مقرصنة، يعني في نهاية المطاف وجود كتلة هامة من القراء الذين لهم حاجياتهم الخاصة. وهي الحاجيات التي يتم الانتباه إليها بذكاء من طرف مافيا القرصنة، التي يبدو أنها تمتلك القدرة على تتبع الإنتاج الأدبي العالمي الجديد.  وذلك بالطبع بدون أن يعفي هذه المافيا، التي تشتغل في الظل، من مسؤوليتها عن جرائمها في حق الكتاب، سواء المغربي منه أو الأجنبي.

وبالطبع، لا يخلو بلد ولا تخلو فترة زمنية من حالات مشابهة، بشكل تبدو معه القرصنة ظاهرة مشتركة، تماما كما بقية الجرائم الصغيرة والكبيرة. غير أن حدة الظاهرة تظل رهينة حضور الأخلاقيات والقيم التي يفترض أن تطبع مشهدا ثقافيا ما. أما الأمر المفارق فهو أن حدة الظاهرة تزداد مع اقتصاديات الكتاب الكبرى. ذلك على الأقل ما يؤكده آخر تقرير صادر قبل أيام. وهو يخص بلدا أوروبيا كبيرا هو إيطاليا. ويكشف التقرير، الذي أعدته جمعية الناشرين الإيطاليين، عن أرقام مذهلة تخص قرصنة الكتب على مستوى النيت؛ إذ تصل عمليات القرصنة إلى ثلاثمئة ألف عملية يوميا، مخلفة خسارات مالية تتجاوز الخمسمئة مليون أورو سنويا، وهو ما يشغل ثلث أرقام معاملات قطاع النشر بالبلد.

 ولا تتوقف هنا خسائر القرصنة، التي يتورط فيها الجميع، بمن فيهم الأساتذة والموثقون والمهندسون وغيرهم. بل سيكون من مخلفاتها اجتياح البطالة لأكثر من ثمانية آلاف عامل من بين المشتغلين بقطاع الكتاب وبمختلف المهن المرتبطة به.

لا يخلو بلد ولا تخلو فترة زمنية من حالات قرصنة الكتب في شكل تبدو معه هذه الظاهرة منتشرة وشعبية

ولعله من باب الصدفة أن يتزامن صدور التقرير مع فضيحة أخرى عرفها نفس البلد. إذ ستفاجأ دار النشر الإيطالية الشهيرة أ/أ  برواية “الحياة الكاذبة للبالغين” للكاتبة إيلاينا فيرانتي وقد صارت معروضة للبيع على موقع أمازون بنصف الثمن المقرر، قبل عرضها في السوق من طرف الدار، وذلك بعد أن وصلت إليها أيادي مافيا القرصنة. ولم يكن اختيار المافيا لهذه الرواية اعتباطيا. إذ أن الروائية إيلاينا فِيرانتي تجر وراءها كثيرا من الأعمال الناجحة، كما هو الأمر بالنسبة إلى روايتها “الصديقة الرائعة”، التي حققت مبيعات تتجاوز العشرة ملايين نسخة، قبل أن تجد طريقها نحو التلفزيون عبر المسلسل الذي يحمل نفس الاسم.

ولا تقل وضعية القرصنة ببلد كفرنسا عن الحالة السابقة. وذلك بالرغم من كل الإجراءات، التي تتخذها سواء المؤسسات الرسمية أو المهنية. ومن ذلك إطلاق قانون “الثمن الوحيد”، الذي يُعرف باسم واضعه جاك لونغ، وزير الثقافة الأسبق، والذي يهدف إلى حماية الكِتاب من خلال منع تخفيض ثمنه. وذلك بالإضافة إلى تدخل النقابة الوطنية للناشرين الفرنسية، من جهة، عبر بلورة ميثاق جماعي يهدف إلى تأطير عمليات بيع الكتاب عن طريق النيت، ومن جهة ثانية عبر إطلاق منظومة معلوماتية بإمكانها تصيد الكتب المقرصنة. وبذلك، يجد البلد نفسه أمام التزايد المذهل لعمليات القرصنة التي تمس بشكل خاص الكتاب الإلكتروني. بل إن آخر التقارير التي تهم المجال تذهب إلى تأكيد أن القرصنة بفرنسا تمس حوالي نصف ما يُتاح على الويب.

وإذا كان الوضع بهذا السوء داخل بلد كبير كفرنسا، فلنا أن نتصور حجم المخاطر التي يعيشها الكتاب بالعالم العربي، حيث تشتغل مئات مواقع الكتب المقرصنة بكل حرية، في اللحظة التي تتواصل فيها دعوات الجميع لتوقيف الظاهرة. وإن كانت الدعوات لا تكفي في هذه الحالة. أما الأمر المفارق فهو أن الجميع يجهل حجم الظاهرة وخسائرها. وذلك لغياب الإحصائيات التي يُفترض أن تشكل المدخل الأساس لكل حل.

وخارج هذه الحالات، لا يمنع الأثر المدمر لعملية القرصنة بروز الكثير من الأفكار المناصرة لها ولحق الجميع في الوصول إلى كل الوثائق والمعلومات بكل الطرق، المشروعة منها أو غير المشروعة. ولعل من أهم منظري هذا الاتجاه لاورينس ليانغ، الباحث في جامعة دلهي والعضو المؤسس لمنتدى القانون البديل. إذ يعتبر ليانغ القرصنةَ، في دراسته الشهيرة “القرصنة، والإبداع والبنيات”، الوسيلة الأفضل لإشاعة الثقافة وتيسير الوصول إليها، خصوصا في المجتمعات التي تُحجم دولها عن تقاسم المعرفة وتوزيعها العادل على الجميع. بل إن لاورينس ليانغ يذهب إلى أبعد من ذلك حين يعتبر أن القرصنة تشكل مصدرا للإبداع،  مستدلا على ذلك بالتطور الذي عرفته السينما النيجرية بفضل أعمالها التي تَنسخ كثيرا منها أفلامَ بوليوود، مؤسسة بذلك لصناعة حقيقية في غياب الدعم الرسمي.

بمعزل عن ذلك، لا تقف القرصنة هنا. إذ أن أياديها الطويلة تصل إلى كل مجالات الإبداع، سواء التشكيلي منه، أو السينمائي، أو الموسيقي أو غيره.  إذ لا حدود للصوص الكتب والأفكار.

15