اللحظة التي نعيشها تحتاج إلى أدب جديد

في سياق اللحظة المشتركة التي نعيشها ستكون الكتابة كما القراءة أمام رهان تغيير أدواتها وطرقها.
السبت 2020/03/28
الأدباء أمام رهان مستقبلي (لوحة للفنان طلال معلا)

في كثير من اللحظات الكبرى، يختار الأدب أن ينسحب تاركا المجال لوسائل التعبير الأخرى. ولعل لحظة انتشار فايروس كورونا تمثل خير نموذج لذلك. ذلك لأنها قد تجعل القراء ينتظرون طويلا ظهور وقراءة الأعمال الأدبية الجيدة التي تستحضر هذا الوباء، خارج فيضان ما قد يُكتب هنا أو هناك من طرف أشباه الكُتاب أو الباحثين عن مواضيع الموضة.

 وإذا كان جانب من ذلك يعود إلى طبيعة الأدب الذي يحتاج كثيرا من الوقت لاستيعاب ما يحدث، غير أن الأمر يكتسي طابعا استثنائيا مع اللحظة التي نعيشها حاليا. ذلك لأنها المرة الأولى في تاريخ البشرية التي يعيش فيها كل القراء المفترَضين تفاصيل ما قد يُكتب بشكل متزامن ومتشابه، ابتداء من الحجر الصحي داخل البيوت والمدن والدول خلال فترات لا يبدو أنها ستنتهي قريبا، ومرورا بإجراءات الوقاية التي تجعل من الآخر ناقلا محتملا للفايروس، وانتهاء بكل الأحاسيس التي ترافق ذلك، سواء تعلق الأمر بالخوف والانتظار والملل والضغط النفسي الذي تخلفه الإشاعات وفيضان المعلومات التي تحصي أعداد المصابين والوفيات التي لا تتوقف، مع القدرة على الضحك وصناعة النكتة في خضم هذا السياق المؤلم.

ويرفع كل ذلك السقف أمام كل الأعمال الأدبية التي يُفترض أن تُكتب عن موضوع فايروس كورونا والتي يجب أن تبحث عن طرق جديدة ومختلفة على مستوى الكتابة. وذلك بشكل تستطيع الاستجابة لآفاق انتظار قراء استثنائيين، يعيشون التجربة نفسها بكل حمولتها وتفاصيلها ومآلاتها، وإن كانت تفرقهم الجغرافيا واللغة والثقافة والسياسة.

كما يقطع نفس الأمر الطريق أمام كل من يبحث عن تحقيق نجوميته الأدبية على حساب موضوع يغري القراء. إذ لن تصلح، في هذه المرة، كتابة اليوميات، بطريقتها التقليدية، بما أن القراء يعيشون الآن نفس اليوميات. كما لن تنجح الرواية التي تلتقط التفاصيل التي تدوّن الألم بما أن كل القراء يذوقونه في كل لحظة. كما لن تتألق القصيدة التي تبحث عن صناعة الأمل والحماس، بحكم كون القراء يعيشون القصيدة بطريقتهم في زحمة المأساة.

في انتظار الأعمال القوية التي قد تأتي أو لا تأتي، ستفتح اللحظة الحالية شهية العودة إلى عدد من النصوص الأدبية القديمة بشكل يحمل أحيانا كثيرا من الإسقاطات. وذلك نتيجة إصرار البعض على البحث عن الألم، الذي تخلفه اللحظة الحالية، داخل النصوص السابقة.

ولعل ذلك ما تعكسه، على سبيل المثال، استعادة رواية “عيون الظلام” للكاتب الأميركي دين كونتز، إذ ستتصدر الرواية، التي يصفها النقاد بالعمل الأقل جودة ضمن أعمال كونتز، منصات مواقع الشبكات الاجتماعية الباحثة عن الإثارة. ذلك لأن الرواية، التي صدرت قبل حوالي أربعين سنة، تتخيل وجود فايروس قاتل يسمى ووهان-400، في إحالة على مدينة ووهان الصينية التي تُعتبر منشأ فايروس كورونا. وسيكون ذلك كافيا لفتح الباب أمام كثير من الاجتهادات التي تبحث في الترابطات بين هذا العمل الأدبي وبين ما يقع حاليا، من زاوية إيمان البعض بخطاب المؤامرات.

أما الطريف فهو أن دين كونتز كان قد استعمل، في الطبعات الأولى من روايته، “غورغي-400” كاسم لفايروسه المتخيل، في إحالة على المدينة الروسية التي شكلت فضاء أحداث النص، قبل أن يستغني عن الاسم بعد استنفاد قوته مع نهاية الحرب الباردة.

لحسن الحظ، هناك دائما ضفة أخرى من القراء الذي يمتلكون القدرة على الذهاب إلى الأعمال الأدبية الجيدة. ولعل ذلك ما تفسره أرقام مبيعات رواية “الطاعون” لألبير كامو المحققة خلال الشهر السابق، حيث شغلت أربعين في المئة من الأرقام التي يفترض أن تُحقق خلال سنة بكاملها.

وتجد العودة إلى رواية “الطاعون” لألبير كامو تفسيرها في التقاطع بين سياق الرواية التي تجري أحداثها خلال أربعينات القرن الماضي بمدينة وهران الجزائرية، وبين جانب من السياق الحالي. وهو الأمر الذي تعززه القيمة الجمالية للرواية التي ظلت تتربع على بوديوم الكتابة الروائية بفرنسا، طيلة أكثر من سبعين سنة.

ولا يقتصر ذلك على فرنسا، بل إن رواية “الطاعون” ستتصدر أيضا مبيعات الأعمال الأدبية على مستوى إيطاليا التي كُتب عليها أن تعيش بدورها مأساة انتشار فايروس كورونا، حسب البحث الميداني الذي قامت به جريدة “الجمهورية” الإيطالية. تجاورها في ذلك كلاسيكيات الأدب الإيطالي التي تقترب من موضوع الأوبئة. ولعل على رأسها الرواية الأكثر شهرة بالبلد “المخطوبين” للأليساندرو مانزوني، والصادرة في منتصف القرن التاسع عشر. وهو النص الذي يعتبره النقاد مؤسِّسا للكتابة الروائية بإيطاليا وممرا ضروريا لكل المهتمين بأدب البلد. بل إن هذه الرواية ظلت دائما تمثل النص الأقرب إلى الإيطاليين، اعتبارا لجمالية كتابتها ولطبيعة ثيماتها التي تقترب من ذهنية مواطني البلد. ولذلك لن يتردد البابا فرنسيس في توجيه دعوته إلى المخطوبين لقراءة الرواية قبل الإقدام على الزواج.

لن يظل الأدب العربي بعيدا عن ثيمة الأوبئة، وإن كان ذلك يتم في غالب الأحيان بشكل عابر قد تغرق معه الثيمة ضمن تفاصيل النص. ولعل ذلك يبدو مفارقا لحجم ما عرفه العالم العربي من مجاعات وقحط وأوبئة وكل أشكال الأمراض الجماعية المميتة.

بمعزل عن هذه الحالات، ستكون سوسيولوجيا القراءة أمام رهان تغيير أدواتها وطرقها في التحليل، في سياق اللحظة التي نعيشها. إذ إن هناك جيلا جديدا يمتلك القدرة على ممارسة القراءة وهو محاط برائحة الموت، بشكل تصير معه القراءة شكلا من أشكال الانتصار للحياة. بينما يستمد هذا الانتصار أهميته من وضعية مجال الكتاب والقراءة، الذي مثل بقية المجالات، يعيش حاليا أسوأ أحواله. ومن علامات ذلك توقف دور النشر عن إطلاق إصداراتها، وإلغاء المعارض الدولية للكتاب، وإغلاق المكتبات، وتوقف عدد من الصحف والمجلات، في سياق لا أحد يعرف مآله إلا الله.

15