الأدب والصحافة، تذكرة ذهاب وإياب

الصحف طورت اللغة وخلقت أجيالا أدبية وساهمت في إطلاق الحوار الفكري وتجديد الإبداع.
السبت 2020/04/11
الصحافة خلقت أجيالا ثقافية (لوحة للفنان سعد يكن)

إن العلاقة بين الأدب والصحافة قديمة وعريقة، حيث كلاهما يكمّل الآخر، فلطالما ساهم الأدب ونشر القصص والمقالات الأدبية والفنية في انتشار الصحف، بينما ساهمت الصحف بدورها وما زالت تساهم، شأنها شأن منابر أخرى، في دعم الساحة الثقافية.

قد لا يبدو غريبا أن تظل العلاقة بين الصحافة والأدب محاطة بكثير من التماهي، إذ لا يمكن تصور وجود أحدهما دون الآخر.

كما يندر أن نجد كاتبا يُقدم على نشر كتبه دون المرور عبر الصحافة، سواء عبر كتابة مقالات عابرة، أو عبر نشر نصوص إبداعية، أو عبر حوارات، أو على الأقل عبر ما يُكتب عنه. كما يندر أن تقفل الصحيفة الباب أمام أركانها الثقافية.

الروايات في الصحف

جانب من هذه العلاقة يعود إلى لحظة “الزواج الكبير” بين الصحافة والأدب المتزامنة مع حلول القرن التاسع عشر. إذ ستشكل الصحافة بإيقاعها الخاص والمختلف مصدر إغراء لكثير من الأدباء الباحثين عن فضاءات أوسع على مستوى تداول أفكارهم وعن قراء جدد، مع ضمان مصدر مالي قار، لم يكن ليوفره نشر عشرات الكتب.

وسيكون ذلك وراء التماهي بين مفهومي الأديب والصحافي إلى درجة أن عددا من قواميس اللغة الصادرة خلال منتصف القرن التاسع عشر كانت تُعَرّف الأديب بالصحافي والصحافي بالأديب. وذلك قبل أن تصير للصحافة مهنتها ومدارسها ومؤسساتها الخاصة.

في الواجهة الأخرى، كانت الصحافة، سواء اليومية منها أو الأسبوعية أو الشهرية، في حاجة إلى البحث عن قراء جدد، من باب الرفع من مبيعاتها وتطوير قدرتها الاقتصادية. وذلك في سياق التنافس بين العناوين التي تتقاسم نفس السوق.

وكان ذلك يقتضي العمل على تنويع منتوجها، بعد أن استنفدت أخبارُ الحوادث قوة إغرائها. وكانت وصفة اللجوء إلى الأدب والأدباء هي الأفضل، حيث صارت الروايات المتسلسلة، على سبيل المثال، الضيف المدلل الذي يشغل الصفحات الأساسية للكثير من الصحف. بل إن كثيرا من الجرائد، ومنها على سبيل المثال جريدة الفيغارو الفرنسية، كانت تحرص على إغراق جدران مدينة باريس وغيرها من المدن الفرنسية بملصقات خاصة بالإعلان عن مواعيد نشر رواية متسلسلة ما، باعتبار ذلك حدثا ينتظره الجميع، كما تكشف عن ذلك الملصقات المرقمنة التي يتيحها موقع غاليكا التابع للمكتبة الوطنية الفرنسية.

قد تكون العلاقة بين الأدب والصحافة وراء خلق مشهد إبداعي بكامله، خصوصا في لحظات غياب دور النشر

وبذلك لن يكون غريبا أن تصل الكثير من الأعمال الروائية الكبرى إلى القارئ عبر الجرائد قبل أن تجد طريقها إلى أيادي الناشرين. ومن بينها رواية “الفرسان الثلاثة” التي كانت وراء صناعة نجومية الكاتب الفرنسي ألكسندر دوما. وذلك بالإضافة إلى رواية “الكابتن فراكاس” للكاتب تيوفيل غوتييه. وهي التي تجرّ وراءها قصة طريفة، حيث كُتب لها أن تُنشر بإحدى المجلات الباريسية، بعد مرور ثلاثين سنة على تعهد غوتييه بتسليم مخطوط العمل إلى ناشره أوجين راندل.

 بينما ستعرف الرواية، التي أوصلت كاتبها إلى ردهات المحاكم، نجاحا مذهلا، يعكسه توالي طبعاتها وترجماتها ووصولها إلى السينما والتلفزيون والمسرح عبر ما يناهز الثلاثين عملا.

لن يظل الأدب العربي بعيدا عن تقليد نشر الروايات المتسلسلة على مستوى الجرائد، وإن كان ذلك يتم عبر حالات قد تبدو معزولة. ولعل من أهمها روايات جرجي زيدان التي كان يواظب على نشرها بمجلة “الهلال” والعديد من أعمال نجيب محفوظ والتي تبقى من أشهرها روايته “أولاد حارتنا”. وهي الرواية التي قد نُشر البعض من فصولها بجريدة الأهرام، قبل أن يتم توقيفها، بعد أن دخلت جهات دينية على الخط، تحت ذريعة “تطاول الرواية على الذات الإلهية”.

مع تراجع حضور الروايات المتسلسلة، اعتبارا لتغير طرق التواصل الأدبي ولتطور مجال النشر، ستصير الأعمدة الملجأ المفضل للكثير من الأدباء الباحثين عن مساحة منتظمة للكتابة. منها الأعمدة الباهتة التي لا تصلح إلا لملء صفحات الجرائد، من دون أن تخلف أي أثر لدى القارئ. ومنها القوية التي تفرض على القارئ ضبط موعده مع إطلالتها اليومية أو الأسبوعية.

المقالات والأدب

لن يظل الأدب العربي بعيدا عن تقليد نشر الروايات المتسلسلة
لن يظل الأدب العربي بعيدا عن تقليد نشر الروايات المتسلسلة

إن كان إغراء كتابة العمود، يتم أحيانا على حساب الكاتب وإبداعه. ولعلها حالة القاص المغربي الراحل عبدالجبار السحيمي، الذي اشتهر بعموده “بخط اليد”، قانعا بمجموعتيه القصصيتين “مولاي” و”الممكن من المستحيل”، الصادرتين خلال منتصف الستينات من القرن الماضي. وإن كانت مكانة السحيمي قد ظلت محفوظة باعتباره أحد أعلام الكتابة القصصية في المغرب.

في كثير من اللحظات، قد تصير الصحف وملاحقها الثقافية، بالإضافة إلى المجلات الأدبية، معبرا أساسا لانبثاق الأجيال الأدبية والثقافية، خصوصا في الوقت الذي يكون فيه مشهد النشر منكفئا على نفسه وغير قادر على مسايرة إيقاع إنتاج الأفكار وتداولها الواسع. وذلك لما تمنحه من إمكانيات النقاش والتداول الثقافي والإبداعي والفني، واضعة مسافتها الخاصة التي تميزها عن الكتاب، رغم الانتماء المشترك إلى نفس الوسيط الورقي.

وأكثر من ذلك، قد تكون العلاقة بين الأدب والصحافة وراء خلق مشهد إبداعي بكامله، خصوصا في اللحظات التي تغيب خلالها دور النشر وغيرها من حلقات صناعة الكتاب. إنها الحالة التي قد يضيئها سياق ظهور الأجناس الأدبية الحديثة ببلد كالمغرب. إذ ستكون الصحافة، كما يرى أحمد المديني في كتابه “فن القصة بالمغرب”، وراء مسار ظهور الكتابة القصصية بالبلد.

وتمّ ذلك، سواء من خلال إسهامها في تطور الأنواع النثرية باعتبارها أشكالا ممهدة لظهور الجنس القصصي بمفهومه الحديث، أو عبر منحها فرصة اللقاء المباشر بالنصوص القصصية المشرقية والغربية، المنشورة خصوصا في الصحف والمجلات الواردة على المغرب. كما تم الأمر نفسه عبر دَور الصحافة باعتبارها فضاء لنشر النصوص القصصية المغربية الأولى، وذلك في الوقت الذي لم يتجاوز عدد المجموعات القصصية المنشورة خلال مرحلة الحماية الثلاث مجموعات فقط.

أقدمت، قبل سنوات، دار النشر الفرنسية جي.أف فلاماريون على إطلاق سلسلة خاصة بإعادة نشر مقالات الأدباء الفرنسيين المنشورة بالصحف اليومية، حيث همت الدفعة الأولى من السلسلة أعمال تيوفيل غوتييه وبودلير وإميل زولا. ولعلها ليست المرة الأولى ولا الأخيرة التي تتم فيها العودة إلى مثل هذه النصوص، في إطار الدراسات الغربية. وذلك في الوقت الذي تكاد تغيب فيه الأبحاث العربية في هذا المجال، صامتة بذلك عن جانب أساس من تاريخ الكتابات الأدبية العربية.

14