تظاهرات ثقافية تونسية أم تظاهر تونسي بالثقافة؟

ينطلق في الحادي والعشرين من مارس الجاري بتونس، أوّل مواسم قرطاج الدولية، والمتمثل في أيام قرطاج الشعرية في نسختها الثالثة، لتتتابع بعدها الأيام الثقافية المنسوبة إلى قرطاج التاريخ والحضارة. أيام باتت تتناسل من بعضها البعض في السنوات الثلاث الأخيرة، بشكل سريالي مُبهم!
تونس – أيام قرطاج السينمائية، أيام قرطاج المسرحية، أيام قرطاج الموسيقية، أيام قرطاج الشعرية، أيام قرطاج الكوريغرافية، أيام قرطاج لفنون العرائس، أيام قرطاج للفن المعاصر، أيام قرطاج للهندسة المعمارية..
كلّها أيام ثقافية تونسية/ دولية جاءت على خطى الأيام البكر، ونعني هنا أيام قرطاج السينمائية التي تأسّست في العام 1966 على يدي السينمائي التونسي الراحل الطاهر شريعة، ثم تلتها في العام 1983 أيام قرطاج المسرحية التي أسّسها المسرحي التونسي الراحل المنصف السويسي، وألحقت بهما في العام 2010 أيام قرطاج الموسيقية.
تناسل الأيام
كلّ هذه الأيام آنفة الذكر، تُشرف عليها ولا تزال وزارة الثقافة والمحافظة على التراث التونسية، حيث كانت أيام قرطاج السينمائية وشقيقتها المسرحية، خاصة، تنتظمان مرة كل سنتين، بالتداول بينهما، الأمر الذي جعلهما تحقّقان نجاحا جماهيريا باهرا، واستقطابا إعلاميا كبيرا من تونس وخارجها، على امتداد أسبوع الأيام.
هذا النجاح غير المسبوق لأيام باتت محجّ الفنانين والنقاد على السواء في العالمين العربي والأفريقي، جعل من وزارة الإشراف تعجّل بقرار تنظيم أيام قرطاج السينمائية بشكل سنوي انطلاقا من سنة 2015، وهو ما انسحب أيضا على أيام قرطاج المسرحية في العام ذاته.
قرار استبشر به المهتمون بالشأن السينمائي والمسرحي أيامها، فثمّن عشاق الفن السابع البادرة، منتصرين لفكرة الكم الذي سيُفرز الكيف الجيّد بالضرورة، ممّا يسرّع من عجلة الإنتاج السينمائي بتونس ويُثري تنوّعه. وهو ما حصل عمليا ولو بنسب مُتفاوتة.
كما هلّل عشّاق أبي الفنون لقرار وزيرة الثقافة سنية مبارك، آنذاك، مُعوّلين على الرصيد المُتنامي للمسرح التونسي وريادته عربيا وأفريقيا، ممّا يرسّخ هذا الفن الإشكالي، دائما وأبدا، ويراكم الذائقة النقدية في الأجيال القادمة.
وإن حقّقت أيام قرطاج السينمائية وأيام قرطاج المسرحية بعضا من أهدافهما في صيغتيهما السنوية الجديدة، فتعدّدت عناوين الأفلام وكذلك المسرحيات واختلفت ثيماتها وأطروحاتها، كما أفرزتا جيلا جديدا من المخرجين والممثلين وصانعي الفرجة بشقيها السينمائي والمسرحي، ممّا أثرى المشهد الثقافي في البلد، فإن المولود الثالث، أي أيام قرطاج الموسيقية، لم يأت بجديد.
هذا المهرجان اللغز، الذي تنوّعت استراتيجياته وتسمياته منذ انبعاث نسخته الأولى في العام 1986، من مهرجان الموسيقى التونسية إلى مهرجان الأغنية التونسية في العام 2005، وصولا إلى أيام قرطاج الموسيقية، الذي انفتح أكثر فأكثر مع تعاقب دوراته على العالمين العربي والأفريقي أُسوة بشقيقيه السينمائي والمسرحي.. فما الذي تغيّر؟ لا شيء، حتما.
يكفي أننا لا نستحضر لحنا واحدا ولا حتى عنوان أغنية واحدة فائزة بـ”تانيت” المهرجان، بل ولا نذكر أيضا اسم فنان واحد من زمرة الفنانين المُتوّجين، على كثرتهم؟
فما الفائدة من وراء مهرجان يستدعي ضيوفه من كل فجّ عميق، ويرصد الموازنات الضخمة، ويذكّي روح المنافسة بين المُتسابقين بحوافز مادية مُجزية، لتُدرج أغنياتهم بعد ذلك برفوف النسيان!
الأمر ذاته، ينسحب تماما، على بقية الأيام الوليدة على قرطاج بتسمياتها المُتعدّدة بين الشعرية والكوريغرافية والعرائسية والتشكيلية والمعمارية.. تجمّع ضخم على امتداد أسبوع أو يزيد قليلا، لأهل القطاع، فيتنافسون ويتسامرون ثم ينفضّ المجلس بيد خاوية وأخرى لا شيء فيها.
هي ثقافة الأرقام في تونس التي لم تنأ بنفسها عن هذه العادة سيئة السمعة، والمتوارثة جيلا عن جيل، أو بعبارة أدق، المُتوارثة وزيرا عن وزير. ثقافة تستعرض أرقاما تبدو في الظاهر مُبهرة، إلاّ أنها في باطنها تستدعي النظر والتحقيق.
ثقافة الأرقام
لا يكفي أن يكون في تونس، على سبيل الذكر لا الحصر، 350 مهرجانا صيفيا في بلد يبلغ تعداد سكانه أحد عشر مليون نسمة، وعدد محافظاته 24 محافظة، ونسبة الأمية قاربت العشرين في المئة، ونسبة البطالة فيه جاوزت الـ15 في المئة؟ إنه الكم الذي يُخفي مُعضلة النوع، نوع المُنتج المعروض، ومدى توافقه مع ذائقة المُواطن التونسي الذي نُسب له تعسفا أنه “شعب ذوّاق”.
هذا التوصيف الذي اتسق، وللأسف على الأمسيات الموسيقية دون غيرها من الفنون، لغايات في نفس بعض الفنانين العرب ومدراء أعمالهم الوافدين على البلد، فيغنون لساعتين من الزمن كي يتقاضوا أجورا مُجحفة ما أنزل الله بها من سلطان على شعب يعيش منذ نحو تسع سنوات أسوأ وضع اقتصادي مرّ به.
أما عن جهوزية المسارح الحاضنة للعروض، فحدّث ولا حرج، عروض يُقدّم بعضها، بل وغالبيتها، خاصة منها تلك المهرجانات المحلية الصغرى، في مدارس إعدادية أو في الساحات العمومية وما شابه.. ثمّ يحدّثونك عن التفاعل الجماهيري الباهر مع مغنّ يُنشد مواويله على قارعة الطريق، فيختلط صوته بصوت منبهات السيّارات.
في النهاية، هناك بون شاسع بين الاشتغال المُتقن على التظاهرات الثقافية الجادة، وبين التظاهر بأننا شعب مُثقّف، له 350 مهرجانا صيفيا، بالتمام ودون اكتمال.
تظاهرات، تُمحى من الذاكرة مع انتهاء الموسم الصيفي، لتبقى ذكرى المهرجان مجرّد سحابة صيف عابرة، لا أكثر ولا أقل. فهل يتغيّر الوضع مع تسلّم شيراز العتيري حقيبة الثقافة في حكومة إلياس الفخفاخ الجديدة، من يدري.. لننتظر؟