ترانيم مسيحية بمترو القاهرة تسبب حرجا سياسيا لعلاقة الحكومة بالكنيسة

القاهرة - أحدثت فرقة موسيقية كنسية حالة من الجدل والاستقطاب السياسي والديني في مصر على خلفية قيامها بترديد مقطوعات من الترانيم المسيحية داخل إحدى عربات مترو الأنفاق بالقاهرة مؤخرا، ما وصفه متشددون بأنه محاولة لنشر التبشير وسط صمت حكومي استدعى خروج طقوس من داخل الكنيسة لتصل إلى عموم الناس.
وانتفض عدد كبير من المتطرفين على منصات التواصل الاجتماعي ضد ترديد ترانيم مسيحية في الأماكن العامة بدعوى أنه لا يصح لأفراد تابعين لأي كنيسة أن يرددوا المقطوعات والعبارات الدينية بهذه الطريقة التي تمثل تحديا لدولة مسلمة إلى درجة بلغت حد التحذير من تبعات محاولة استفزاز مشاعر المسلمين.
وأعاد الشد والجذب حول الترنيمة الكنسية داخل المترو إلى الواجهة علاقة الحكومة بالكنيسة، ما تسبب في وضعهما في حرج بالغ، فالحكومة تحارب التشدد الديني بكل صوره وأشكاله، ولم تعلّق سلبا أو إيجابا على استثمار مجموعة من الشباب المسيحيين لوسيلة نقل عامة للترويج لأفكارهم التي لا تتناسب مع طبيعة الأغلبية المسلمة.
وأظهر الفيديو أن أعضاء فريق كورال “أغابي” الذي يقدم التسابيح والترانيم في عدد من الكنائس قاموا بترديدها بصوت جماعي، وقت أن كانت عربة المترو فارغة تقريبا من الركاب، لكن ما أزعج البعض أنه تم نشر الفيديو على منصات التواصل الاجتماعي عبر تقنية البث المباشر ما أسهم في تصاعد الاستقطاب السياسي والديني بين مؤيدين ومعارضين.

كمال زاخر: على الحكومة التدخل لرد الاعتبار لمفهوم مدنية الدولة
ورأى داعمون للخطوة، وكثير منهم مسلمون، أن ترديد ترانيم كنسية في أماكن عامة لا يستدعي كل هذا الصخب والعراك الديني باعتبار أن الآذان في المساجد يتردد على مسامع الناس بمختلف عقائدهم عبر مكبرات الصوت ولم يتذمر الأقباط منه، وبالتالي لا مبرر لكتمان صوت كورال غنائي كنسي يدعو إلى التسامح في وسيلة مواصلات عامة.
واستدعت الأزمة أن يخرج أعضاء من الكورال لتبرير الموقف والتأكيد على أنهم يقومون بتنظيم الحفلات الكنسية في أماكن ثقافية وعامة، مثل ساقية الصاوي بالقاهرة، ويشارك مسلمون في الترانيم بالعزف أو التلحين، وما قيل في عربة المترو كان يتحدث عن السيدة مريم العذراء التي اختصها الرب بسورة كاملة في القرآن الكريم.
وأظهر الاستقطاب الحاد على الكورال الكنسي أن الحكومة المصرية بحاجة إلى المزيد من الوقت والجهد للقضاء على التطرف الفكري والديني في البلاد، وأن صوت المتشددين يظل مرتفعا، والخطوات التي تقوم بها المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية يشوبها الكثير من القصور لنشر التسامح والمحبة واحترام الآخر.
ويروج متشددون أن صمت المؤسسات الرسمية في مصر على ما جرى داخل عربة المترو يوحي بأنها تتعامل مع الأقباط بطبيعة خاصة، خشية اتهامها باستهداف الأقلية الدينية، في حين أنه لو كانت فرقة إسلامية فعلت نفس الأمر لتمّ اتهامها بالانتماء إلى تنظيم ديني متطرف وربما جرى تحريك دوريات أمنية للقبض على عناصر الفرقة.
ورأى الباحث والمفكر القبطي وأحد مؤسسي التيار العلماني بالكنيسة المصرية كمال زاخر أن توظيف واقعة ترديد الترانيم داخل المترو سياسيا يعكس أن الجماعات الأصولية ما زالت صاحبة الصوت الأعلى والأقوى والأكثر نفوذا، واستمرار الاستقطاب الديني يمكن استثماره للقيام بأفعال مناهضة للدولة نفسها.
وأضاف لـ”العرب” أن تداعيات الحدث أثبتت وجود تحديات كبيرة، وعلى الحكومة التخلص من التطرف في المجتمع، مؤكدا رفضه الخاص لما حدث من الشباب المسيحي داخل المترو لأن الحياة العامة لا يجب أن يتم تديينها من أي فصيل، قبطي أو إسلامي، وأنه على الحكومة التدخل لرد الاعتبار لمفهوم مدنية الدولة بكل ما تحمله من معان إيجابية.
وذهب كثيرون إلى أن تلاحم المسلمين والأقباط في كورال غنائي، بغض النظر عن هويته الدينية، دعوة غير مباشرة للتسامح وإظهار فرحة كل شريحة بسعادة الآخر رغم اختلاف عقيدته، وطالما أن الترانيم جاءت في إطار غنائي مبهج ورصين، فلا يمكن تصنيفه على أنه محاولة من شباب الكنيسة لكسر المحرمات والتباهي المعلن بالهوية المسيحية في دولة مسلمة.
الاستقطاب الحاد على الكورال الكنسي أظهر أن الحكومة المصرية بحاجة إلى المزيد من الوقت والجهد للقضاء على التطرف الفكري والديني في البلاد
وتعكس هذه التفسيرات إلى أي درجة صار التشدد معضلة كبرى تعاني منها مصر، وأن كل مساعيها لإعادة بناء الإنسان ومحاولة ضبط الهوية الثقافية للناس وخلق مجتمع يبدع ويفكر تنقصها الكثير من التحركات الجادة، وأن التركيز على التنمية والمشروعات الكبرى شغلها عن الأولوية الأهم، وهي القضاء على جذور التطرف.
والسلفيون والإخوان يمثلون أكثر التيارات الممتعضة من تطور علاقة الحكومة بالأقباط، ويعتقد هؤلاء أن الدعم السياسي المقدم لهم بلغ مداه بعد فترة طويلة من التقوقع داخل الكنائس لأداء الشعائر الدينية خشية الاستهداف من جانب المتشددين الذين أحرقوا في فترات سابقة بيوتا وكنائس مسيحية.
ويعتقد متابعون أن خروج شباب قبطي لترديد ترانيم في أماكن عامة قد يخدم أهداف الحكومة، لأن ذلك يعني نجاحها في توفير الأمان والسلام للأقلية الدينية في المجتمع، بشكل يدفعهم للخروج إلى الفضاء العام بكل أريحية للتباهي بانتمائهم للديانة المسيحية بعيدا عن ترهيبهم من جانب متشددين.
وخلص زاخر إلى أن “استمرار مظاهر التدين في الفضاء العام للمسلمين أو المسيحيين يمثل جرس إنذار للحكومة وسط ما يحدث في أفغانستان من قبل طالبان، وشغف المتشددين الإسلاميين بالتجربة هناك”.
وفي تقديره “يجب مواجهة كل ما هو ديني خارج أماكنه المتعارف عليها، الكنيسة أو المسجد، والتعامل معه باعتباره من المحرمات الاجتماعية والسياسية، إذا أرادت الحكومة تكريس مدنية الدولة”.