النظم غير الديمقراطية تواجه ثغرة إعلامية بتخليها عن الصحافة

الصحافة حاجة أساسية للنظم غير الديمقراطية كما هي لمثيلاتها الديمقراطية على اختلاف المهمة والدور اللذين تقوم بهما، بخدمة الأنظمة أو بمناهضتها، وحشد الرأي العام أو تأليبه، لذلك فإن تخلي النظم عن الصحافة التي تدافع عنها وتنقل رسائلها وتخدم مصالحها يشكل فراغا في منظومتها الإعلامية لا تسده وسائل الإعلام الحكومية الناطقة باسم الحكومات.
عمان – تلتصق صفة “تابعة للنظام” بوسائل الإعلام الحكومية في الأنظمة غير الديمقراطية، باعتبارها لن تحيد عن التأييد المطلق لهذه النظم ولن يجد النقد سبيلا إليها، وباستثناء الأخبار المحلية اليومية والقرارات الرسمية، لا تستطيع المنابر الحكومية أن تكون أداة ذات تأثير كبير على الجمهور خصوصا في القضايا الحساسة والأزمات، لذلك تحتاج هذه الأنظمة لمنابر أخرى تنقل رسائلها وتخاطب المتلقين بلغة أقرب إليهم منها إلى الأنظمة.
وشاعت لدى السياسيين في الدول الديمقراطية التي تحظى فيها الصحافة والإعلام بمنسوب كبير من الحريات مقولة “صحف من دون حكومة أفضل من حكومة من دون صحف”، وبغض النظر عن صحة المقولة أو إمكانية حدوثها حتى في أعتى الديمقراطيات، إلا أنها تشير إلى الدور الخطير الذي تقوم به الصحافة في الحياة السياسية بخدمة الأنظمة أو بمناهضتها، وقدرتها على حشد الرأي العام أو تأليبه، ودروس التاريخ شاهدة على الدور الذي قامت به صحف كبرى في تغيير مسار السياسيين.
واعتمدت النظم غير الديمقراطية لسنوات طويلة على منابر إعلامية عديدة لنقل رسائلها في الداخل والخارج، لاسيما تلك التي تتضمن معلومات لا تريد الحكومات الإفصاح عنها بشكل رسمي بل عبر قنوات جانبية غير ناطقة باسمها، ونجحت هذه المنابر بالمهمة بسبب هامش الحرية الأوسع لديها مما هو متاح في الإعلام المحلي بالإضافة إلى احترافيتها وتعدد وسائطها بين المقروء والمرئي والمسموع والمواقع الإلكترونية.
وقال الدكتور كريم الفراجي أستاذ مادة الإعلان الصحافي في جامعة عمّان الأهلية، إن “الأنظمة السياسية غير الديمقراطية في منطقتنا العربية لطالما اتكأت على الصحافة مقروءة كانت أو مسموعة أو مرئية لفرض وجودها وبقائها واستمرارها ومحاولة تكريس هيبتها المفقودة وصناعة الرأي العام المنقاد، فحاكت الصحافة لهذه الأنظمة أسرار ذلك الوجود، وأضفت عليها طابعا من الشرعية المزيفة، خلافا لمعايير المهنية ومدونات الشرف. والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة في واقعنا العربي”.
وأضاف الفراجي في تصريحات لـ“العرب” “اعتدنا أن نرى مؤسسات إعلامية مرتهنة للحكومات، والغريب في الأمر أن هذه المؤسسات الإعلامية ليست حكومية فحسب، بل خاصة كذلك فالمال السياسي أخذ يتدفق بقوة ما أسال لعاب تلك المؤسسات وأصبحت أدوات طيعة بيد السياسيين، والأغرب من ذلك هو مقدرة تلك الوسائل في الوصول والتأثير فلديها الإمكانات والموارد التي منحتها فرصة مواكبة تكنولوجيا الإعلام واستقطاب الكوادر بعناية، ما جعلنا نشهد تغيرا جذريا في منظومة المعايير المهنية لدى المؤسسات الإعلامية والعاملين بوسائل الإعلام في منطقتنا العربية”.
ووفقا لفراجي، لا تتعلق المشكلة فقط بالقائمين على الوسيلة الإعلامية، بل بالكادر الصحافي الذي يسوق مبررات التنقل من وسيلة إلى أخرى دون الاحتكام إلى أي معايير حتى لو كانت الوسيلة الجديدة على شقاق مع مؤسسته الأم، فضلا عن ظهور القوى السياسية واستحواذها على صناعة القرار السياسي وسيطرتها على رأس المال وهذا ما بات واضحا في مؤسساتنا الإعلامية في الآونة الأخيرة.
وتابع أن “هذه الأنظمة قد نجحت فعلا وبأساليب غير أخلاقية في إعادة صياغة المعادلة، فالصحافة الحرة التي لطالما كانت أحد أهم أركان ومبادئ الأنظمة الديمقراطية أصبحت اليوم أداة لبسط النفوذ بعد ما أسفرت عنه التحولات السياسية من تداعيات في المشهد الثقافي العربي من تردّ واستهانة بالرأي العام، وإزاء ذلك بدأنا نشهد صحافة (حرة) في ظل نظام دكتاتوري، مما يستدعي إعادة صياغة الكثير من المفاهيم وإعادة رسم الخارطة الإعلامية من جديد”.
وخلص إلى أن “كل ذلك أخرج الصحافة عن وظيفتها ولم تعد هنالك صحافة حرة نزيهة وحلت محلها صحافة سلطوية جائرة، مارست التضليل وتزييف الحقائق”.
في المقابل يعتبر آخرون أن الصورة ليست قاتمة كليا، فالمنابر “السلطوية الجائرة” تقابلها منابر متعددة أخرى تنقل الصورة المغايرة وترد على الشائعات والأخبار الكاذبة، فالحالة الصحية للصحافة عموما هي التعدد والتنوع، وعلى القارئ أن يختار ما يناسبه فهو يمتلك من الذكاء ما يجعله قادرا على انتقاء ما يريد من سيل المعلومات والأخبار وتقييم وسائل الإعلام ومعرفة تبعيتها ومصدر تمويلها.
ومع الأزمة الاقتصادية التي لحقت بالدول جراء تداعيات فايروس كورونا وانهيار أسعار النفط، تخلت الحكومات عن العديد من وسائل الإعلام ما خلق لها ثغرة اتصالية واضحة إذ اضطرت للاعتماد على وسائل إعلام محلية متواضعة مهنيا.
ويرى خبراء إعلام أن نظرة الأنظمة غير الديمقراطية للصحافة تبدو قاصرة وتطغى عليها المناسباتية، ولا تدرك أن مهام وسائل الإعلام أبعد من عملية الانتخابات ومناسباتها والدعاية لها، فوظيفة الإعلام إلى جانب نقل الأخبار والمعلومات بطريقة احترافية ومهنية والإضاءة على كافة جوانب القضايا التي تهم الدول والمواطنين، تشكيل الرأي العام وتوعية المجتمع.
وقال الدكتور رحيم مزيد الكعبي أستاذ مادة الصحافة في جامعة الكتاب بكركوك “المشكلة في علاقة الصحافة بما يمكن أن نسميه الديمقراطيات الزائفة ليست في إدمان توظيف هذه الأنظمة للصحافة لتمرير مشاريعها السياسية أو الأيديولوجية، ولا حتى في استمراء الصحافة أن تكون أداة طيعة للسلطات، على اختلاف الحقب والتجارب، لكن المشكلة المستديمة هي في القدرة الفائقة للسلطات على إنتاج وتصنيع أسماء ومجموعات ومؤسسات ونقابات واتحادات، تمارس مهنة الصحافة على اختلاف أنماطها وأشكالها، بدفع وتوجيه وتحريض حكومي صارخ!”.
ونوه الكعبي في تصريحات لـ”العرب”، “لم تعد هناك حكومات تقول إنها ليست ديمقراطية، حتى أنظمة الحكم الوراثي تحاول بأي شكل إضفاء صفات أو ممارسات تحاكي بها ما يُعمل به في الدول الديمقراطية”.
وأوضح “المشكلة أن هذه المهنة التي لا تنقصها الأدبيات الأخلاقية ومواثيق الشرف المهنية، ومع ذلك لا تزال سهلة المنال على السياسيين في الديمقراطيات الزائفة، الذين لا يتوانون عن خلق واصطناع أسماء صحافية بعينها؛ يقدمونها لاحقا للجمهور على أنها تمثل الصحافة، في الوقت الذي تمثل فيه صراحة وضمنا، جهارا نهارا، السلطة بكل عيوبها وإخفاقاتها وممارساتها”!
واعتبر أن “هذا مقتل الصحافة في نظم الديمقراطيات الزائفة قبل غيره من عوامل التوظيف الأخرى للصحافة قديمها وحديثها، الورقي منها والرقمي، إلى الدرجة التي تمكنت فيها جهات وشخصيات سياسية في بلد مثل العراق، من أن تذهب أبعد من الهيمنة المباشرة على وسائل الإعلام، من خلال مجاراة البعد التقني الحديث للصحافة، ممثلا بشبكات التواصل الاجتماعي، وجعلها تعج بما يطلق عليه الجيوش الإلكترونية التي تدافع عن السياسيين الفاشلين والفاسدين وتبرر إخفاقات الحكومات”.
ولم تكن حتى منصات التواصل الاجتماعي بمنأى عن عمليات الإنتاج وإعادة التصنيع الكبرى لأسماء وهيئات ومجاميع صحافية تعمل ليل نهار على تزييف الحقائق وتقديم مقاربات مشوهة وغير حقيقية لما يشهده الواقع.
وتغامر الأنظمة في كثير من الأحيان بالاعتماد على “جيوش إلكترونية” فوضوية وغير منضبطة ولا معايير لديها، فتخرج عن السيطرة وتقوم بدور معاكس لما هو مطلوب منها وكثيرا ما تسببت بأزمات وأحرجت دولا وسياسيين لأن أساليبها مكشوفة ولم تعد خافية على أحد وتظهر تبعيتها بأبسط التقنيات.
ويعتبر خبراء إعلام أن الصحافة ووسائل الإعلام رغم تبعيتها لهذه الدولة أو تلك إلا أنها تعتبر أكثر مسؤولية وانضباطا وتحظى بموثوقية أكبر من المنصات الاجتماعية، رغم كل الانتقادات التي تتعرض لها.
ويضيف الخبراء أن التنوع والتعددية لا غنى عنهما في وسائل الإعلام مع الاستقطاب السياسي الحاد، ووجود أصوات متعددة ضروري لتوضيح ما يجري على الساحة العربية والدولية للجمهور، وتوضيح سياسات الحكومات وخدمة مصالح الدولة، وعدم ترك المجال مفتوحا للمنابر الأخرى لبث الفوضى والتحريض دون رد أو خطاب مواجه.