الفيلم التلفزيوني الحلقة المفقودة في الدراما التونسية

ممثلون تونسيون: التلفزيون العمومي تخلى عن دوره الريادي.
الجمعة 2021/07/09
"13 نهج غاري بلدي".. مغامرة جريئة لم يكتب لها الاستمرار

باتت الأشرطة التلفزيونية، غائبة عن المشهد الدرامي في تونس في العشرية الأخيرة بعد أن تخلّى التلفزيون الوطني العمومي عن دوره في إنتاج هذا الصنف من الدراما التي كانت تُؤنس السهرات التلفزيونية للعائلات التونسية خلال عقد التسعينات من القرن الماضي وما تلاه. فهل لم يعد لهذا الصنف من الدراما مكان في خارطة البرمجة التلفزيونية، أم أن لهذا الغياب أسبابا أخرى غير معلنة؟

تونس – أعاد عرض قناتي الوطنية الأولى والوطنية الثانية (عموميتان)، مؤخرا، لمجموعة من الأشرطة التلفزيونية التونسية على غرار “ولد البسطاجي” و“اعترافات المطر الأخير” وسلسلة “ابحث معنا”، سؤالا قديما ما انفكّ يتجدّد، مفاده لماذا غابت هذه النوعية من المسلسلات عن المشهد الدرامي التونسي، والحال أن تونس شهدت ما بعد ثورة 14 يناير 2011 تسونامي غير مسبوق في عدد المحطات التلفزيونية فاق العشر فضائيات بين عمومية وخاصة؟

أحمد الحفيان: مشكلات الدراما التونسية انحسرت مؤخرا في السيناريو الجيّد
أحمد الحفيان: مشكلات الدراما التونسية انحسرت مؤخرا في السيناريو الجيّد

“العرب” طرحت على بعض الممثلين التونسيين سؤال: هل بات ما يُصطلح على تسميته لدى عموم التونسيين بـ“التيلي فيلم” أو السهرات التلفزيونية موضة قديمة مضى زمانها وانقضى؟ أم يعود ذلك إلى غياب الكتّاب القادرين على التكثيف الدرامي في عمل تلفزيوني من ساعة ونصف الساعة؟

فأتت إجابة كل من أحمد الحفيان ونصاف بن حفصية ودليلة المفتاحي متحسّرة على هذا الغياب غير المبرّر لسهرات تلفزيونية جمعت في وقت مضى شتات العائلة التونسية على طبق درامي دسم يمزج الإمتاع بالتثقيف أيضا، دون السقوط في متاهة الوعظ والإرشاد.

ويقول الحفيان “هذه الأعمال هي من صميم اختصاص التلفزيون الوطني العمومي الذي يظل من أوكد واجباته الارتقاء بالذائقة الجمالية للمُشاهد التونسي، الذي كان ولا يزال يرى في قناته الأم القاطرة التي عليها أن تقود بقيّة القنوات للنسج على منوالها. لكنها وللأسف تخلّت في العشرية الأخيرة عن دورها الريادي والطلائعي المنوط بعهدتها، فارتدّت الدراما التونسية بشكل عام إلى مراتب دونية، أساسها الربح على حساب الكيف القيَمي”.

غياب غير مبرّر

يرى الحفيان أن مشكلات الدراما التونسية في الوقت الراهن انحسرت في السيناريو الجيّد القادر على شدّ انتباه المُشاهد بعيدا عن المسلسلات الرمضانية المُمطّطة بموجب أو دونه، فالمخرجون والممثلون موجودون، بل ومتميّزون، وفق توصيفه.

لكن انسحاب بعض كتاب السيناريو الكبار من المشهد على غرار علي اللواتي صاحب رائعة “اعترافات المطر الأخير” (1992) أو نورالدين الورغي كاتب فيلمي “ريح الفرنان” (1997) و”بنت الكيوسك” (2002)، علاوة على رحيل جمال الدين خليف كاتب السلسلة البوليسية الشهيرة “ابحث معنا”، عمّق هذا الغياب، بل وأنهى هذه النوعية من الدراما أصلا.

دليلة المفتاحي: الكتّاب موجودون، لكن أصحاب القرار لم يعد يعنيهم المضمون
دليلة المفتاحي: الكتّاب موجودون، لكن أصحاب القرار لم يعد يعنيهم المضمون

وهو ما تتّفق فيه معه الممثلة المسرحية نصاف بن حفصية التي تقول “لو عدنا إلى نوعية الأشرطة التلفزيونية التي كانت تُعرض على التلفزيون العمومي التونسي، ودقّقنا فيها لوجدنا على رأسها أهم كتاب الدراما التونسية ومخرجيها، ولعل غيابها اليوم يعود إلى ندرة الكتّاب المتخصّصين، وإلى عدم قدرة هذه النوعية من الأعمال على منافسة المسلسلات الطويلة ذات المواسم المتتالية واللانهائية أحيانا، إلى جانب السيتكومات الهزلية التي يسعى المُنتج والقناة الباثة لها إلى تحقيق نسب مشاهدة عالية، ممّا يدرّ دخلا ماليا محترما للقناة وجهة الإنتاج على السواء، وهو حقّ مشروع لا محالة لكلا الطرفين”.

وتضيف بن حفصية في تصريحها لـ“العرب”، “لهذا ربما عرض فيلم تلفزيوني من حلقة واحدة أو اثنتين لا يضمن للمنتج ولفريق العمل نسبا عالية من المشاهدات، وكأننا اليوم لا نُنافس على الجودة أو المحتوى، وإنما كيف نُحقّق نسب متابعة عالية باعتماد ممثلين أو أسماء أو حتى وجوه قادمة من مواقع التواصل الاجتماعي تضمن للقناة الربح السريع، ليس أكثر”.

وعلى خلاف رأي الحفيان وبن حفصية تقول الممثلة المخضرمة دليلة المفتاحي “الكتّاب موجودون وخزينة التلفزة الوطنية تزخر بعدد كبير من السيناريوهات الجيّدة، لكن المشكلة تكمن في أصحاب القرار الذين لا تعنيهم هذه المشاريع رغم أنها غير مكلفة مقارنة بالأعمال الأخرى، وهذا محزن حقا”.

والرأي ذاته دعّمه السيناريست والممثل محمد علي دمق الذي قال في تصريح لـ“العرب”، “المسألة الإنتاجية والربحية تحديدا هي التي أثّرت بشكل مباشر في إقصاء هذه النوعية من الأعمال الدرامية من المشهد، ولا علاقة لشحّ السيناريوهات أو عدم رغبة المخرجين في إنتاج مثل هذه الأعمال في غيابها”.

وتميّزت الدراما التونسية بين سنوات 1990 و2010 بالتنوّع على مستوى الكتابة أو المواضيع الاجتماعية اللصيقة بمشاغل المجتمع التونسي والعائلة التونسية، وأيضا على مستوى النوعيّة، حيث تنوّع المنتج الدرامي بين المسلسلات الطويلة والمسلسلات القصيرة والسيتكومات وكذلك الأشرطة التلفزيونية التي كانت تُعرض خلال نهاية الأسبوع وخارج شهر رمضان على شكل سباعية كسلسة “آمال” لسالم بن عمر (1997)، أو رباعية كسلسلة “خطى فوق السحاب” لعبداللطيف بن عمار (2003)، أو حتى في حلقة واحد كـ“بنت الكيوسك” لخالد برصاوي و”طين الأجبال” لعلي منصور (2004) وغيرها الكثير.

نصاف بن حفصية: اليوم بتنا لا نُنافس على الجودة، وإنما كيف نُحقّق نسب متابعة عالية
نصاف بن حفصية: اليوم بتنا لا نُنافس على الجودة، وإنما كيف نُحقّق نسب متابعة عالية

تنوّع مفقود

هي سهرات تلفزيونية حُفرت عميقا في الذاكرة الجماعية للتونسيين بتنوّع موضوعاتها التي تحدّثت عن إكراهات تحيق بالمرأة التونسية العاملة أو الطالبة أو ربة البيت في المدينة والريف على السواء، كما قُدّمت في “ريح الفرنان” و“بنت الكيوسك” و“طلاق إنشاء” و“رسالة حب”، أو تلك التي عالجت مُشكلات الاختلاف كـ“ولد السطاجي” الذي يروي قصة ابن مريض بالتوحّد، لكنه ذكي يحفظ كل المعاجم ويُجيب على كل الأسئلة الثقافية المُمكنة، وهو ما جعل والده يستفيد منه لكسب المال، إلى أن يتعرّف الشاب الفاقد لعاطفة الأمومة – بعد رحيل والدته وهو طفل – على فتاة تعاني من الوحدة مثله، ليستحيل سويّا معافى.

وثالثة تطرّقت لإكراهات الزواج من أجنبيات وما يعنيه هذا الزواج المُختلط من صراع هويات ومدى انعكاس ذلك على الأبناء، كما قدّمه فيلم “اعترافات المطر الأخير” الذي يعدّ باكورة إنتاجات التلفزيون التونسي في هذا المجال.

ويقترح الحفيان لتلافي بعض النقص الحاصل في كتّاب السيناريو التونسيين أن تُشرف مؤسّسة التلفزة التونسية على دورات تكوينية، وإن كانت مسائية، لخلق جيل جديد من كتّاب السيناريو الشباب يُشرف على تأطيرهم ثلة من أمهر كتاب الدراما التونسية، فيتخصّصون في كتابة السلسلات الدرامية القصيرة أو الأشرطة التلفزيونية التي باتت موضة العصر ومطلبا ملحا من منصات العرض الإلكترونية، وبذلك تحصل الفائدة للجميع، من كتّاب سيناريو وممثلين ومخرجين ومنتجين، بالإضافة إلى ما يحقّقه هذا التوجّه من انتشار للمُنتج التونسي على المستوى العربي، ولمَ لا العالمي أيضا.

وهو ما تأمله بدورها بن حفصية، التي لا ترى مناصا من عودة هذه النوعية من الدراما إلى الشاشات التونسية، بعد أن ملّ المواطن التونسي بلاتوهات التوك شو السياسية التي اجتاحت المشهد الإعلامي دون إفادة تُذكر.

محمد علي دمق: إنتاج الأعمال الدرامية بمختلف أجناسها أصبح خاضعا لقانون المنافسة
محمد علي دمق: إنتاج الأعمال الدرامية بمختلف أجناسها أصبح خاضعا لقانون المنافسة

وعلى غير المتوقّع بادرت قناة “التاسعة” الخاصة في شهر أبريل الماضي بإحيائها ثيمة السهرات التلفزيونية عبر سلسلتها الجديدة “13 نهج غاري بلدي”، التي أتت شبيهة شكلا ومضمونا بسلسلة “ابحث معنا” التي كان يبثّها التلفزيون العمومي التونسي في أواسط ثمانينات القرن الماضي، إلاّ أن القناة توقّفت عن عرض بقية حلقاتها مع حلول شهر رمضان، فاسحة المجال لمسلسل “أولاد الغول”، على أمل العودة إلى السلسة بعد انتهاء الموسم الرمضاني، لكن ذلك لم يحدث حتى اللحظة.

وقبلها، استبشر المُشاهد التونسي خيرا، بمبادرة قناة “الحوار التونسي” الخاصة في شهر فبراير الماضي، بإقدامها على إنتاج السلسلة الكوميدية “إن شاء الله مبروك” التي تمّ عرضها بمعدل حلقة في الأسبوع، مساء كل اثنين، قبل أن تتوّقف بدورها خلال شهر رمضان فاسحة المجال للبرمجة الرمضانية، لتستأنف عروضها ثانية إثر انتهاء الموسم، وإن اختلفت “إن شاء الله مبروك” عن “13 نهج غاري بلدي” من حيث الطرح وخاصة التصنيف.

فالأولى سيتكوم كوميدي من حلقات متصلة، والثانية سلسلة بوليسية منفصلة يمكن مُشاهدة كل حلقة منها منفردة دون الحاجة إلى مُشاهدة بقية الحلقات، ما يقرّبها من صنف الأشرطة التلفزيونية التي باتت معدومة في المشهد الدرامي التونسي، وهي بادرة تُحسب لقناة “التاسعة” رغم عدم استمرارها، فهل سحبت القنوات الخاصة البساط من تحت أقدام التلفزيون العمومي في هكذا صنف من الدراما؟ أم أن الأمر لا يتعدّى كونه مجرد موجة عابرة سرعان ما تضمحل.

عن هذا السؤال يجيب دمق “ربما غامرت بعض القنوات الخاصة بإنتاج هذا الجنس من الدراما التلفزيونية بشكل عرضي/ تنافسي، إلاّ أنها لا تضمن لها المتابعة الوفية والدائمة، على عكس المسلسلات المتكوّنة من عدة حلقات، والتي تجعل المُشاهد يرغب في متابعة تطوّر الأحداث، في حين أن تحديد موعد بث قار لفيلم تلفزيوني يعدّ هنا مُغامرة غير مضمونة العواقب، لذلك يتجنّبوها، إلاّ في ما ندر”.

16