الصحافة الخاصة في مصر على أعتاب الاندثار

يرتبط قرب اندثار الصحافة الخاصة في مصر بأسباب سياسية تتوازى مع الشق الاقتصادي، فبعد أن اختارت التماهي مع الحكومة للحفاظ على مصالح أصحابها وعدم تأثر استثماراتهم، باتت بعيدة عن الشارع وغير مؤثرة فخسرت النفوذ والمال والجماهيرية.
القاهرة - دخلت الصحف المصرية الخاصة مرحلة التلاشي التدريجي الذي يلي عملية خفض النفقات، حيث بدأت البعض من الصحف في التحول نحو الإصدار الأسبوعي والاستغناء عن عدد كبير من محرريها، بالتوازي مع خسارة أصحابها للمكاسب السياسية التي كانوا يجنونها منها.
اتساع دائرة التقشف
تقرّر أن تتحول صحيفة “البوابة نيوز” الخاصة، والمملوكة للنائب البرلماني السابق عبدالرحيم علي، من إصدار يومي إلى أسبوعي مطلع يناير المقبل، ولجأت إدارة صحيفة “المصري اليوم”، أهم وأكبر صحيفة خاصة في مصر، إلى الخيار الأصعب بالاستغناء عن العشرات من العاملين والإبقاء على عدد محدود في بعض الأقسام. وذلك في ظل الشح المالي وارتفاع الديون وعدم قدرة الملاك على الوفاء بالالتزامات المادية تجاه الصحافيين والإداريين، فضلا عن تكلفة الطباعة والتوزيع.
وتم ترك الباب مفتوحا في إصدارات أخرى، أمام كل من يرغب من الصحافيين في الحصول على إجازة دون راتب شهري، وهو ما لجأ إليه الكثيرون في ظل المضايقات التي يتعرضون إليها وتطبيق قواعد صارمة دفعت البعض إلى اختيار الإجازات عن الإجبار على العمل في أجواء مشحونة، ورواتب متدنّية لا تسمح بالابتكار والعمل بمهنية.
وأمام اتساع دائرة التقشف باتت هناك صراعات محتدمة بين المؤسسات والصحافيين الذين تقرر الإبقاء عليهم بسبب خفض الرواتب بنسبة وصلت إلى 60 في المئة، والتلويح بإمكانية الاستغناء عن دفعات أخرى من المحررين في حال رفض القبول بالأمر الواقع، وثمة من هدّد بغلق الصحيفة إذا تم رفض الالتزام بالتعليمات.
وقال صحافي نجا من قائمة الأسماء التي جرى الاستغناء عنها في إحدى الصحف الخاصة، إن الإدارة أبلغت المحررين بإمكانية الغلق الكامل في أي لحظة، إذا استمرت، في ظل ارتفاع الديون وندرة الموارد وهجرة الجمهور للصحافة الإلكترونية.
وأوضح لـ”العرب”، شريطة عدم الإفصاح عن اسمه، أن مستقبل الصحافة الخاصة أصبح مجهولا وغلقها مسألة وقت، لأن المؤسسات التي تتحجّج بارتفاع تكلفة الطباعة وتراجع التوزيع، لم تستعن بالصحافيين للعمل في الإصدارات الإلكترونية لها، ما يعني أن هناك نية للتصفية على مراحل متعاقبة.
المواطن المصري لم يعد مهتما بشراء الصحف لأن المعلومات متاحة مجانا في منصات التواصل والصحف الخاصة لم تعد تجلب لأصاحبها الربح
وأبلغت الصحيفة التي يعمل بها الصحافي المصري حوالي 45 محررا بالاستغناء عنهم، وهناك صحيفة أخرى فصلت 40 صحافيا دفعة واحدة منذ أيام قليلة، رغم أن أغلبهم من المؤسسين القدامى للصحيفتين ولديهم إمكانيات مهنية، لكن تقليص النفقات يشكل أولوية بالنسبة إلى المؤسسات خصوصا أن الصحف الخاصة لم تعد تجلب مكاسب لصاحبها كما كان في الماضي.
وكانت غالبية الصحف الخاصة تحقق لأصحابها مصالح واسعة، غير أن متابعين لعلاقة الحكومة بهذه الفئة خلصوا إلى أن هناك جملة من الأسباب الأخرى بعيدة عن الخسائر المادية وراء القرار بالاستغناء عنها، وترتبط بالصدام الذي وقع بين ملاك بعض الصحف والحكومة، ما دفع بعضهم إلى بيعها حصصهم لشركات خاصة قريبة من الدولة، وحتى هذه بدأت تئن بسبب الخسائر وضعف المحتوى الإعلامي.
وألمح البعض إلى أن جرأة صحيفة “المصري اليوم”، تعود إلى أن رجل الأعمال صلاح دياب، صاحب ومؤسس الصحيفة الذي خرج من السجن قبل أسابيع، ويتم التحقيق معه بتهم التربّح غير الشرعي، استخدمها بهدف الضغط على الحكومة لتليين مواقفها حياله.
كما أن عبدالرحيم علي مالك صحيفة “البوابة نيوز”، أثار غضب دوائر سياسية على وقع انتشار تسريب صوتي له تطاول فيه على البعض من مؤسسات الدولة، وتعرض إلى هزيمة ساحقة في انتخابات مجلس النواب مؤخرا.
ويبدو أن بعض أصحاب الصحف الخاصة الذين اعتمدوا عليها كظهير سياسي تحقق لهم نوعا من النفوذ في السابق، تأكدوا اليوم من زوال هذه الميزة، ووجدوا أنه لا طائل من الإنفاق على الصحف، فالسلطة ترفض الرضوخ للضغوط والتهديدات، وتصر على كسر شوكة أي شخص يقدم نفسه للشارع على أنه سلطة موازية.
ويقود ذلك إلى أن قرب اندثار الصحافة الخاصة يرتبط بأسباب سياسية تتوازى مع الشق الاقتصادي، ما انعكس سلبا على التنوع والاختلاف اللذين كانت تتميز بهما في السياسة التحريرية، وصار بعضها أقرب إلى الصحف الحكومية التي تتناغم مع الدولة وتروّج لإنجازاتها وتنأى بنفسها عن التغريد خارج السرب.
إخفاق مهني
أخفقت هذه النوعية من الصحف في أن تحافظ لنفسها على مسافة واحدة من الحكومة والجمهور، واختارت التماهي مع الحكومة للحفاظ على مصالح أصحابها وعدم تأثر استثماراتهم، وأهملت الشريحة التي كانت تعتبرها الأمل الأخير في معرفة الحقيقة من خلال التناول المهني الحر للقضايا والموضوعات التي تهم الشارع.
واعتاد الكثير من أصحاب الصحف الخاصة التدخل في السياسة التحريرية بشكل يخدم مصالحهم، لدرجة أنهم كانوا يتحكمون في تحديد ما ينشر وما هو ممنوع، ويصعب تطرقهم إلى فساد وانحراف مسؤول بعينه، حتى أنهم في بعض الأحيان يصرون على تناول قضايا شائكة وبالبحث يتبيّن أنها تمس صميم استثماراتهم.
ويرى خبراء أن أصحاب رؤوس الأموال من ملاك الصحف الخاصة يتحملون وحدهم فاتورة انهيار مؤسساتهم، لأنهم بادروا إلى توظيفها في تحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية، وأقحموها في معاركهم مع الحكومة، وهم أيضا من جعلوا منها نشرة يومية للبيانات الرسمية على أمل إرضاء الحكومة، وكانت النتيجة خسارة الصحافة.

ليلى عبدالمجيد: أغلب الصحف الخاصة في مصر ظهرت لاعتبارات تخدم مصالح أصحابها ومع الوقت فقدت بريقها ومهنيتها
وأكدت ليلى عبدالمجيد، عميدة كلية الإعلام بجامعة القاهرة سابقا، أن “أغلب الصحف الخاصة في مصر ظهرت لاعتبارات تخدم مصالح أصحابها، ومع الوقت فقدت بريقها ومهنيتها، وانفض عنها الجمهور، وخسرت النفوذ والمال والجماهيرية، وهنا يضطر المالك الحقيقي إلى التخلص من أعبائها بتقزيم دورها أو غلقها”.
وأضافت عبدالمجيد لـ”العرب”، أن “المواطن نفسه لم يعد مهتما بشراء الصحف، حكومية أو خاصة، لأن المعلومات متاحة مجانا في منصات أخرى، وبالتالي لا توجد مكاسب منها، والميزة في الإصدارات الحكومية أن الدولة تدعمها لأسباب سياسية، لكن الخاصة منها لم تعد تجلب لصاحبها سوى الخسارة والصداع”.
وسواء تم إغلاق مؤسسات خاصة أو تحويل إصداراتها الورقية من يومية إلى أسبوعية، أو حتى تغيير مسارها لتكون إلكترونية، فالمشهد الصحافي لن يتغير كثيرا، بحكم أنها ستضطر إلى الحفاظ على الحد الأدنى من علاقتها مع الحكومة، خشية ضغط بعض الدوائر على أصحابها لبيعها والتخلص مما تبقى من مراكز القوى في منظومة الإعلام.
وتؤمن جهات إعلامية في مصر، بأن استمرار ملكية رجال أعمال لمؤسسات خاصة قد يتم توظيفها سياسيا لا بد من تقويضه، بعدما أثبتت التجارب السابقة أن امتلاك مستثمرين لصحف وقنوات، كان يستخدم لخدمة مصالحهم.
وما يلفت الانتباه أن نقابة الصحافيين، وهي الجهة المنوط بها حماية حقوق أبناء المهنة والحافظ على المؤسسات من الانهيار، لم تحرّك ساكنا، وفضلت الصمت أمام ما يحدث داخل بعض الصحف الخاصة، في مؤشر يعكس أنها تعي تداعيات مساندتها لكيانات تعتقد أنه مغضوب عليها، وتحيط بأصحابها أكثر من علامة استفهام.
ويعتقد البعض أن الصحف الحكومية التي سحب البساط من تحت أقدامها مع ظهور الصحف الخاصة ويمكن إنقاذها من الانهيار، غير أن الغالبية متشائمة من هذا الاعتقاد، لأن الإعلام الرسمي نفسه يكاد يعيش الظروف نفسها، ويمر بأزمات مالية طاحنة وتراجعت معدلات التوزيع أمام الضعف المهني.
وبين أزمات الصحف الحكومية والخاصة أصبح قطاع كبير من الجمهور يحصل على المعلومة من منصات التواصل الاجتماعي ولا يكلف نفسه عناء مطالعة الصحف باعتبارها نسخا مكررة، فلا الأولى تلامس نبض الشارع ولا الثانية باستطاعتها الاشتباك مع الواقع وصارت المقاطعة عنوانا عريضا لعلاقة المصريين بالصحافة.