الأدب والفنون ذهابا-إيابا

تبدو العلاقة بين الأدب والفنون غير خاضعة لوصفة نهائية. إنها قد تتغير مع تغير الأزمنة والكُتاب والفنانين وقدرتهم على التجريب والمغامرة في اجتياز جنس أدبي أو فن ما نحو آخر، بما يمكن أن يحمل ذلك من غنائم وخسائر إبداعية.
وفوق ذلك، تظل هذه العلاقة محكومة بنوع الجنس الأدبي وبنوع الفن. إذ يبدو على سبيل المثال، وإن كان ذلك من باب الانطباع، أن الطريق الذي يقود الرواية نحو السينما صار، مع مرور الزمن وتراكم التجارب، أكثر رحابة، خصوصا بحكم طبيعة المكون السردي الذي يجمع الحقلين.
ولعل ذلك ما يؤكده، سواء التراكمُ الذي تعرفه الفيلموغرافيا العربية المستندة على النصوص الروائية، أو فيضانُ الأعمال الغربية، بما فيها الأعمال المكرَّسة لحياة الكُتاب، كما هو الأمر بالنسبة إلى أفلام “الغراب الأسود” المكرس لحياة إدغار آلان بو، و”حياة إيميل زولا”، و”موليير”، و”ساعي البريد”، الذي يحكي جزءا من حياة الشاعر بابلو نيرودا. بل إن ثيمة حياة الكُتاب ظلت تشكل موضةً خلال لحظات طويلة على مستوى الأفلام الغربية.
وذلك باعتبار أن أي ممثل لم يكن يتم اعتباره، حسب الأدبيات السينمائية، فنانا حقيقيا إذا لم يَمر عبر الأفلام المخصصة لحياة الكُتاب، لما يقتضيه ذلك من قدرة كبيرة على نقل حالات مزاج الكاتب المتقلبة، التي يتوزعها القلق والفرح، والتردد واليقين والعزلة والرغبة في الاحتماء بالجماعة.
لا تنتهي العلاقة هنا. بل يصير الكِتاب، في كثير من الأحيان، بطلا سينمائيا يزاحم الممثلين. ولعلها حالة الفيلم الشهير “الكِتاب الأخضر” للمخرج الأميركي بيتر فاريلي، الحاصل على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم، خلال السنة الجارية. ويجعل المخرج من”الكِتاب الأخضر”، الذي كان يتم اعتماده بالولايات المتحدة الأميركية، خلال المنتصف الأول من القرن العشرين، لتحديد الأماكن التي لا تستقبل السود، كمُحرك أساس لقصة الفيلم. وذلك في إطار تناوله للعنصرية، التي كانت مستشرية خلال الفترة.
أما الحالة الثانية فليست غير رواية أمبرتو إيكو الشهيرة “اسم الوردة”، التي كانت ضيف الفيلم الذي يحمل نفس الاسم. ويجعل الفيلم، كما الرواية، من الكِتاب المسموم بطلا رئيسا للأحداث التي تجري داخل أحد أديرة إيطاليا، حيث تتوالى حوادث قتل كان ضحاياها عدد من الرهبان.
في مقابل ذلك، يبدو مقلقا أن تُضيع السينما العربية عددا كبيرا من النصوص الروائية الجميلة التي تستحق أن يتم نقلها بذكاء إلى الشاشة. على الأقل لكي تنقد نفسَها من بوار الخيال الذي يهدد وجودها.
ولا تَقل العلاقة بين الأدب والفنون التشكيلية يسرا عن العلاقة السابقة. ويعود ذلك إلى عراقة الترابط بينهما، إلى درجة أنه كان يتم اعتبار القصيدة لوحة ناطقة واللوحة قصيدة صامتة. ويُترجَم ذلك، على مستوى الواقع، من خلال مستويين على الأقل.
يتجلى أولهما في حضور اللوحة كعنصر ضمن الكتاب، من خلال احتلالها لغلافه، بشكل يصير الغلاف، في كثير من الأحيان، عتبة لفهم النص وإضاءته.
ويكمن المستوى الثاني في التجارب المشتركَة بين الشعراء والفنانين التشكيليين، على مستوى عدد من المعارض والكتب المشتركة. ولعل التجارب التي خاضها عدد من الشعراء المغاربة، خلال سبعينات القرن الماضي، على مستوى تجربتهم الكاليغرافية القائمة على توظيف الخط المغربي على مستوى أعمالهم الشعرية خير نموذج على ذلك. وإن كانوا قد أفسدوها في ما بعد، بفعل النقاش الطويل الذي همَّ تحديد من كان وراء السبق.
وعلى المستوى الغربي، تبرز كثير من التجارب التي تبحث عن فضاءات أخرى لاستثمار العلاقة بين الأدب والتشكيل. ولعل من بينها السلسلة الشهيرة “الكنوز الدفينة”، التي كانت قد أطلقتها دار النشر الفرنسية فلوهيك، والتي تقترح، على مستوى كل إصدار، عودة إلى أعمال فنان تشكيلي قديم من طرف كاتب معاصر، كما هو الأمر بالنسبة إلى العمل الذي جمع الكاتب المغربي الطاهر بنجلّون والفنان التشكيلي السويسري الشهير ألبرتو جياكوميتي، المتوفى خلال ستينات القرن الماضي.
بخلاف هذه العلاقات التي تضمن المرور السَّلِس بين الأدب وبعض الفنون، لا يُغري الذهابُ إلى فنون أخرى وتوظيفُها الكثيرين. ولعل ذلك يهم بشكل خاص القصيدة والسينما. وقد يبدو، من باب الانطباع، أنه لم يسبق، على مستوى مجمل تاريخ السينما العربية، أن سُجل اسم مخرج أتى من مجال الشعر، إلا في حالات معدودة لا تليق بحجم هذه السينما وبتاريخها. كما تندر الأعمال السينمائية العربية التي يمكنها أن تُشعر المشاهدَ أنه أمام قصيدة، على الأقل من خلال توفرها على الشروط الجمالية الراقية.
وغير بعيد عن ذلك، تتسم علاقة الأدب بالموسيقى، على الأقل في الوقت الراهن، بكثير من الالتباسات والمفارقات. ويمكن اختزال هذه العلاقة في صورة تبدو فيها الموسيقى كما لو أنها تطرق بقوة وبإلحاح بابَ الأدب، بينما يصر الأخير على عدم الانتباه إلى ضيف غير مرغوب فيه، وهو الذي كان يقاسمه خلال قرون نفس البيت. ولعل هذه الصورة تنطبق بشكل أكبر على القصيدة، التي طلَّق أصحابها الموسيقى، ليسعوا إلى شحن نصوصهم بمزيد من النثر، معولين على الموسيقى الداخلية. وإن كان عدد قليل منهم يستطيع تحقيق ذلك. والنتيجة أننا حققنا، خلال العقود الأخيرة، تراكما شعريا ضخما. أما الغائب في هذه الزحمة فهو الشعر والنثر معا.
والغالب أن ذلك لا يهم المشهد العربي فقط. بل يشمل أيضا الشعر في بعده الكوني. ولعل ذلك ما يفسر، على سبيل المثال، الجدلَ الذي أثاره بشكل كبير فوزُ الأميركي بوب دايلان، القادم من عالم الموسيقى وكتابة الكلمات، بجائزة نوبل للآداب، قبل سنتين.
وبمعزل عن ذلك، كثيرا ما يتم الحديث عن العلاقة بين الفنون والأدب بشكل يختزل هذه العلاقة في جانبها الأحادي، الذي يَعتبر الأدب مركزَ هذه العلاقة ومؤلّها. بينما يتم تناسي الطرف الآخر. إذ يندر أن نقرأ رواية كُتبت انطلاقا من قصة فيلم سينمائي، أو قصيدة يمكن أن تغني عن قطعة موسيقي راقية.