تيسير بركات يشقّ مسار الروح في الصخور

يقدّم الفنان الفلسطيني متعدّد الوسائط تيسير بركات معرضا فنيا في صالة “زوايا” بمدينة دبي الإماراتية يحمل عنوان “مسار الروح”، ويستعرض فيه آخر نتاجه الفني الذي شكّل منذ ما يقارب الثلاثين عاما حالة فريدة ساهمت في إرساء معالم الفن الفلسطيني المعاصر.
يتواصل حتى الثامن من ديسمبر القادم بصالة “زوايا” في دبي معرض “مسار الروح” للفنان الفلسطيني المتعدّد الوسائط تيسير بركات.
معرض قالت عنه الصالة في بيانها الصحافي “معرض الفنان الفردي الأول في مدينة دبي يضمّ مجموعة من أعماله المشغولة بعدة وسائط ومواد منها الصباغ والحبر والألوان”.
البيان الصحافي الذي نشرته صالة زوايا ليرافق معرض الفنان الفلسطيني تيسير بركات تحت عنوان “مسار الروح” يكشف عن ملامح فن بركات بشكل عام وعن معرضه الجديد هذا بشكل خاص بكلمات دقيقة جدا بعيدا عن السذاجة التي تتميّز بها العديد من البيانات الصحافية المرافقة لمعارض فنية/ شرق أوسطية. ولكن حبذا لو كانت الصالة وموقعها الرسمي الغني بكنوز الفن التشكيلي الفلسطيني تقدّم ذاتها والفنانين باللغة العربية كما تقدمها باللغة الإنجليزية في أحسن تقديم.

ويضيف البيان “أعمال الفنان تستعرض مسارا زاخرا بالناس وبأراض فلسطينية من خلال عدسة تتميّز بشفافية صوفية”.
ويمكن الإضافة هنا أن فن بركات في مجمله تلفحه نسائم روحانية دون أن تُبعثر ملامحه الحسية المرتبطة ارتباطا وثيقا بمشاعر الألم والحزن والفرح البسيط المتصل بعنصرين هامين جدا، وهما الزمان المفتوح والمكان الذي، ويا لغرابته، هو ثابت ومائي في آن واحد.
عالم خفيّ وغامض
المرة الوحيدة التي التقيت فيها الفنان تيسير بركات كانت خلال مشاركته في معرض بيروتي عن تجربة التشكيل والهوية الفلسطينية في صالة “دار النمر للثقافة والفنون” والتي حوت ندوة شيقة عن الفنان نبيل عناني، الذي أودّ أن أسميه بالشلال الذي لا ينضب تجدّده، والفنان سليمان منصور شاعر الثبات الذي يكاد المرء يشتمّ عطور أرض فلسطين نافذة من ألوانه ومن السكون القدري الراشح من شخوصه.
نبيل عناني متواضع وغزير، وسليمان منصور متحفظ وباهر، أما تيسير بركات فهو كما أعماله القديمة والجديدة حسيّ وروحاني في آن واحد ويأسره الشكّ بكل وافد ومغادر.
ويأتي معرضه هذا الأثيري المعنون بـ”مسار الروح”، صادح بتساقط الحصى الحاضرة في لوحاته وتدحرج حبوب الرمل الناتئة وعلى إيقاع “صواعقه” الداخلية التي لا يُسمع لها صوت، ولكن تُرى بالعين المجردة، كي يؤكّد على هذا الخليط الذي يشكّل عمله، وهو الشبيه بخليط الزيت والماء الذي يدوم حتى يسكن الاثنان منفصلين عن بعضهما بعضا وبينهما خيط/ أفق تلاق هو تلازم محاذاة وحنين.
وفي محاولة لتفكيك شفرات أعماله الفنية، لاسيما الجديدة منها، نذكر ما قاله يوما خلال وجوده في مصر في زيارة لمتحف محمود سعيد “أستذكر القصر ببهوه وأعمدته التي استطالت فيّ لا شعوريا أكثر من واقعيتها التي لا تزيد عن الثلاثة أمتار وأصبح البناء أكثر فخامة في ذاكرتي، فقد كنت أقيس الأشياء، كما أعرف مخيم جباليا، والذي لا يزيد ارتفاع أعلى شباك فيه عن الأرض بالمتر ونصف المتر، ناهيك بأني أعرف أغلبية شبابيكه التي تتساوى مع الأرض، وأعرف أعدادا أكثر من الشبابيك والتي يكون منسوبها خمسة أمتار تحت سطح البحر”.
يكاد هذا المعرض أن يكون تجسيدا “صوفيا”، إذا صحّ التعبير، لكلماته تلك. فهو اكتسب هذه الصور وأخرج منها نصا بصريا “جارفا” وحافلا بالعناصر. منها المستقاة من الحضارات القديمة كالأشورية والفينيقية والكنعانية ومنها ما استخرجه من ماضيه الشخصي، لاسيما من مخيم جباليا للاجئين الفلسطينيين الذي ولد فيه وعاش قبل أن ينتقل إلى الدراسة في مصر.

أحاسيس داخلية لا يُسمع لها صوت، لكنها تُرى
بركات يرسم عالما موازيا للحاضر وليس بديلا عنه، وإلاّ لما كان الألم حاضرا فيه كتهديد والحزن موجود كذكرى مكرّسة لم تقطع حبل الصرة مع العالم الواقعي المأسوي.
ولما كان الانعتاق أيضا، لاسيما في شخوصه المحلقة والمتحوّلة إلى رذاذ بحري، قادرة على الانفصال رغم ارتفاعها عن الشخوص التي تختبر آلام الإقصاء والحروب.
إنه عالم حسيّ وروحيّ في آن واحد، المادة فيه حمّالة للروح والروح فيه مصهور بالمادي/ الجسدي/ الحسي. وهو الذي يُبرز في عالمه هذا القدرة الماهرة في تظهير الخفي والغامض، ولكن بشكل محدود يمنع مُشاهد اللوحات أن يتأكّد بأن ما يراه حقيقة أو من صناعة خيال الفنان.
بين الداخل والخارج
في إحدى لوحات المعرض يرصّع الفنان مدينة أو قرية بمثلثات منمنمة هي أشبه بالأرقام الديجيتالية التي يتألف منها العالم الأثيري/ الافتراضي الذي يرسمه. مثلثات رغم إيحاءاتها المعاصرة جدا تبقى جميلة كالوشم وساحرة كالرموز المُستقاة من عالم حضر ومضى.
وفي لوحة أخرى تظهر خيال شجرة عارمة، ولكنها حاضرة جدا لأنها خيال. والخيال الذي يرسمه الفنان والظل أيضا هما صور شبحية “مُلحة” لم تغادر اللوحة ولا هي أرادت مغادرتها. وبقربها خيال امرأة وقد أصبح ما يؤلفها هو تلاطم أوراق الشجرة تلك.
في هذه اللوحة أصبح الخارج في الداخل والداخل منتصبا وقادرا على استيعاب العالم الخارجي بأسره، البحر حاضر وأمواجه ويمكن العثور عليه جليا. ولكن أجمل حضوره هو عندما يتمظهر في لوحات لا تجسّد البحر، بل البحر يسكنها من خلال حركاته وتقلّب أمواجه وحركاته المائية، حتى أن بعض الشخوص تبدو وكأنها نقط من ماء تبعثرت في فضاء مشحون بالتفاصيل.
◄ المعرض أتى صادحا بتساقط الحصى الحاضرة في اللوحات، وتدحرج حبوب الرمل على إيقاع الصواعق الداخلية
للوهلة الأولى تذكّر لوحات بركان بما وجد في عتمة الكهوف القديمة (الأسود والأبيض ليست ألوانا في لوحاته، بقدر ما هي وسائل للتظهير والإخفاء)، ولكن سرعان ما يذهب هذا الانطباع ويحلّ مكانه الرذاذ المثقل بالغبار والبخار والرطوبة والضباب وسديمية المادة عندما تنطق بروحها، ولا شيء غير ذلك.
وتيسير بركات الفنان المتعدّد الوسائط والشغوف باختبار المواد واستخدامها لتكون وسيطا مُسهلا لبلوغ المعنى المُرتجى، من مواليد مخيم جباليا، قطاع غزة في العام 1959. حصل على بكالوريوس الفنون الجميلة من الإسكندرية عام 1983، وهو عضو في رابطة الفنانين الفلسطينيين منذ العام 1984، ويقيم الآن في رام الله.
له العديد من المعارض نذكر منها معرض بينالي ساو باولو الدولي عام 1997، ومعرض النمسا عام 2006، ودمشق عام 2010، وبينالي الإسكندرية عام 1989، وروما (1989-1996)، ومتحف الفن الحديث في ستوكهولم عام 1996، ومعرض مقر الأمم المتحدة في نيويورك عام 1997، ومعهد العالم العربي في باريس عام 2000، وبينالي الشارقة عام 2003، ومتحف الفنون المعاصرة في هيوستن بولاية تكساس الأميركية، ودبي وغيرها الكثير.
![]()
|
![]()
|