دبة النملة

تنبهر بالتكنولوجيا. ما هذه التقنيات التي تستطيع أن تجمع لك العالم بين يديك في هاتف ذكي. ما هذه التقنيات التي تتيح لك استرجاع ما فاتك من معلومات وصور وفيديو، وأن تبحث وتجد ما تريده بلمح البصر. ما هذا الذكاء الذي يسألك وأنت تكتب مفردة بالخطأ أثناء البحث: هل تقصد هذه الكلمة؟ جرب ألاّ تغير لوحة مفاتيح الكمبيوتر بين الإنجليزية والعربية واكتب حروفا لا معنى لها في لغة بنافذة بحث غوغل، فيردّ وكأنك كتبتها بأحرفها الصحيحة بلغتها الصحيحة.
تنبهر أكثر إذا تتوفر خلفية معرفية علمية أو هندسية. للمستخدم العادي، يبدو الأمر سحرا. للمستخدم الذي درس هندسة من أمثالي، سيقدر حجم الجهد الإنساني الكبير الذي جعل كل هذا ممكنا. ثورات متعاقبة عاصرتها خلال 30 سنة. ثورات متوازية أيضا. في الوقت الذي كانت تتطور فيه محركات البحث، وما يعنيه هذا من “جوع” لقدرات كمبيوترية أكبر، كأن المعالجات تقفز بقدراتها قفزا. أول مشهد فيديو شاهدته على الإنترنت كان لبضع ثوان وبحجم طابع بريد ويصور إطلاق مكوك الفضاء. انظروا الآن ماذا نشاهد لساعات. ثورة رقمية تحول مشهدا من عشر دقائق إلى ملف يمكن نقله بين القارات في أقل من ثانية. كان سيحتاج عشر دقائق لنقله. اجتمعت ثورة ضغط الفيديو مع ثورة التوسع بسعات الشبكات لنصبح كلنا محطات تلفزيون نصور وننشر. الخيار لك: إرسال مباشر لشبكتك الخاصة على واتساب أم تحميل على يوتيوب أم توزيع على إنستغرام؟
مع كل انبهار، تحتاج إلى الحذر. أعتقد أن انبهار كمفردة جاءت من شدة الضوء على العين لدرجة أنك لا ترى ما هو أمامك. من السهل أن تكتسحك التكنولوجيا، فلا تستطيع أن تميز بالضبط ما تريده منها. ليس الحديث هنا عن الأفراد، فقط، بل المؤسسات والجيوش والدول. ضوء التكنولوجيا الساطع جعلها تفقد الرؤية وليس البصر. تبصر ولكن تعجز عن التفسير أو أن تستوعب ما تراه. مثل سائح يتجول في مكان جميل، يضيع كل وقته خلف عدسة الكاميرا لالتقاط صور للمكان وصور له ومن معه في المكان، ولا ينتبه أنه لم يترك لعينه وعقله فرصة الرؤية والاستمتاع. ثمة حالة أسوأ. أن الصور سيلفي، فلا يرى إلا نفسه ومشهدا خلفه. حتى الدول تأخذ سيلفي لنفسها وتعتقد أنها تعمل الصحيح.
الانبهار بالتكنولوجيا خطير. يمكن أن يضيعك. في التسعينات، كتب مفكر أميركي استراتيجي يصف عالم ما بعد الحرب الباردة وحرب الكويت. تخيل ساحات معارك يتم فيها رصد كل شيء. كاميرات تصور كل شيء من الجو أو الفضاء، ومجسات إلكترونية رخيصة برخص التراب تنثر على الأرض. لا حاجة لعين بشرية أو أذن. مجسات تسجل “دبة النملة” وتنقلها إلى مقر القيادة للتعامل مع الموقف. بقيت المجسات على أرض أفغانستان تسجل دبيب النمل، ولم تنتبه إلى وقع أقدام طالبان التي تتقدم. بقية القصة معروفة.