محنة الآثار ضد الآثار تتجدد في مصر

أثار هدم واحد من القصور التاريخية القديمة في مدينة الأقصر، جنوب مصر، بحجة وجود آثار أسفله أزمة حادة داخل الأوساط الثقافية حول تكرار الاعتداء على التاريخ لصالح الحاضر، ما طرح نقاشا ساخنا يلوح تارة ويختفي تارة أخرى حول أي الأزمنة الماضية أولى بالرعاية والاهتمام.
القاهرة- أبان قرار هدم واحد من القصور التاريخية القديمة في مدينة الأقصر الذي تم تنفيذه قبل أيام عن حالة تخبط سائدة في التعامل مع الآثار والأبنية التاريخية على المستويين الحكومي والشعبي في مصر، حيث تمت إزالة القصر الذي يخص عائلة توفيق أندراوس باشا بناء على قرار مجلس مدينة الأقصر باعتبار أن المبنى آيل للسقوط، وغير مسجل رسميا كأثر تاريخي مع أنه بني منذ أواخر القرن التاسع عشر، فضلا عن وجود حاجة للتنقيب تحته استنادا لدراسات رجحت البناء فوق أنقاض معبد روماني قديم.
برر البعض اتفاق اللجنة المشكلة في المجلس الأعلى للآثار على هدم القصر، بإصدار رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي توجيهات شفهية خلال زيارته الأخيرة للأقصر قبل نحو شهرين بضرورة إخلاء طريق الكباش من أي مبان قديمة تؤثر على النسق الحضاري العام للمنطقة الأثرية، في ظل الترتيب لافتتاح تاريخي للطريق بمشاركة وفود عالمية.
وتمتد ساحة القصر المبني من الطوب اللبن بمساحة 917 مترا مربعا في الطريق بين معبد الأقصر وطريق الكباش مطلا على نهر النيل بواجهة تمتد نحو 25 مترا، ما يجعله واقعا داخل نطاق حرم المعبد، على حد قول بعض رجال الآثار المؤيدين للهدم.
تاريخ ضد آخر
طرحت الأزمة تساؤلا هاما حول مدى تقبل الاعتداء على جزء من التاريخ دعما لجزء آخر، وهو ما اعتبره بعض المثقفين المتابعين للأزمة ازدواجية غير مبررة في التعامل مع الآثار والمباني التاريخية.
صحيح أن هناك اتفاقا غير مكتوب بأن آثار مصر القديمة الأكثر أهمية لدى الحكومة لما تحظى به من إعجاب واهتمام عالمي واسع، إلا أن ذلك لا يعني أن يكون ذلك على حساب بناء آخر له بعده الحضاري.
ويقول الكاتب المصري هشام مبارك، المُنتمي لمدينة الأقصر، لـ”العرب” إن عدم اعتراف وزارة الآثار بقصر الباشا الشهير الذي تم بناؤه عام 1897 كأثر لا يعني أبدا الموافقة على هدمه، لأنه يخص عائلة مُهمة لعبت دورا عظيما في تاريخ مصر الحديث.
ويوضح أن قرار الهدم وما صاحبه من سرعة في التنفيذ دون محاورات مجتمعية مثّل صدمة قاسية لأهالي المدينة السياحية الذين اعتبروه بمثابة تغيير متعمد لمشهد حضاري قائم ومعروف اعتادوه منذ عقود طويلة.
ومعروف أن القصر يخص توفيق باشا أندراوس وهو أحد أعيان مدينة الأقصر، وكان له دور عظيم في مؤازرة الزعيم سعد زغلول في كفاحه ضد الإنجليز حتى أنه قام ببيع مئات الأفدنة من الأراضي الزراعية وتبرع بقيمتهم للحركة الوطنية.
وأصر الرجل على استقبال زغلول سنة 1921 عندما منعت سلطات الاحتلال استضافته وانتخب بعد ذلك عضوا في البرلمان عن حزب الوفد على مدى اثنتى عشر عاما خلال الفترة من 1923 إلى 1935.
واستضاف القصر اجتماعات مصطفى النحاس باشا زعيم حزب الوفد ورئيس الوزراء الأسبق في زياراته المتعددة للأقصر، ما جعله يكتسب مكانة تاريخية لدى الناس تتجاوز فخامته المعمارية وطرازه الإيطالي الفريد وزخارفه البديعة ومقتنياته النادرة، فضلا عن وجود لوحات من الفريسك في الأسقف والحوائط نفذها بعض الفنانين الإيطاليين في زمن الإنشاء.
ويستغرب البعض من عدم تسجيل المبنى كأثر رغم أن تعديلات قانون الآثار رقم 117 لسنة 1983 التي أقرها البرلمان المصري قبل نحو عام اعتبرت كل بناء مر عليه مئة عام يدخل ضمن نطاق الآثار.
وأكدت مونيكا حنا رئيسة وحدة التراث والآثار في أكاديمية العلوم والتكنولوجيا أن عدم تسجيل القصر كأثر يعد مخالفة قانونية للمجلس الأعلى للآثار. وأوضحت في تصريحات إعلامية أخيرا أن المجلس مُلزم وفقا للقانون بالبحث عن أي مبنى أثري وادراجه ضمن الآثار مادام محققا لشرط مرور المئة عام، و”هناك مبان أثرية يتم شطبها من السجلات تمهيدا لهدمها لصالح مشروعات ربحية يمكن إقامتها في المكان ذاته”.
تراكم حضاري
يرى البعض من الخبراء أن تقبل افتراض مسؤولي الآثار بترجيح وجود آثار رومانية أو حتى مصرية قديمة (فرعونية) أسفله لا يبرر أن اكتشاف هذه الآثار يستلزم هدمه تماما.
ويشير هؤلاء إلى وجود وسائل وتقنيات تكنولوجية حديثة للتنقيب عن الآثار دون هدم ما يعتليها من مبان، وهو نمط من الأساليب المتبعة للتعامل الحضاري مع المباني التاريخية القائمة على تراكم الحضارات والعصور، انطلاقا من مبدأ التعامل مع الأزمنة الماضية كلها بميزان من العدالة.
ويوضح الدكتور شريف شعبان أستاذ الفنون المصرية القديمة في جامعة القاهرة أنه من المثير في الأمر أن لجانا سابقة تم تشكيلها بمعرفة وزارة الثقافة المصرية انتهت إلى ضرورة الحفاظ على القصر كما هو.
ويضيف لـ”العرب” أن الكثير من دول أوروبا لديها مبان متعددة الأزمنة تقوم فوق بعضها، وتتم إتاحتها للزوار كدليل للتكامل الحضاري، ومعظم الدول المهتمة بتاريخها تحتفي بكل بناء له دلالات تاريخية. ويتابع قائلا “لو كان مثل هذا القصر الرائع قائما في أي دولة من دول أوروبا لتم ترميمه وصيانته، بل والاحتفاء به بالشكل الأمثل”.
وقد تجاوزت تقنيات العلم الحديث فكرة المفاضلة في العمل الأثري بين مبنى وآخر، إذ يمكن الكشف عن عدة مبان قائمة في المكان ذاته ترجع إلى عصور متفاوتة دون وجود حاجة للاستغناء عن أي منها، ويمثل القول إن المبنى آيل للسقوط خصما من الإمكانات المفترضة للهيئة المصرية المسؤولة عن الترميم، لأنه تم ترميم مبان أكثر قدما وأسوأ حالا.
ورممت الحكومة المصرية على مدى ثلاث سنوات انتهت منتصف العام الماضي قصر البارون البلجيكي إدوار إمبان المقام في حي مصر الجديدة بالقاهرة، واعتبرته أحد القصور الأثرية رغم أن تاريخ البناء يلي قصر اندراوس في الأقصر بنحو عشر سنوات.
تذبذب النظرة الجمالية
يلفت النظر أن الحكومة المصرية تصر على الالتزام الحرفي بالقانون دون وضع اعتبار للنسق الثقافي العام، حيث يتيح القانون الاستيلاء على أراض وعقارات للمنفعة العامة، خاصة لو كان الهدف هو التنقيب عن آثار محتملة.
إن أحدا لم يفكر في الأمر من هذا التصور ما دام ملتزما بالسجلات الرسمية التي تنفي كونه أثرا، فالتشوه البصري الناتج عن إخفاء مبنى مهم لا يمكن الإمساك به على كونه عملا مخالفا للقانون.
ويشدد الناقد سيد محمود لـ”العرب” على أن النسق الحضاري المفترض لأي مكان متغير من زمن لآخر، لكن ذلك لا يعني أن النسق الحضاري الآن يجيز هدم قصر بينما كان النسق الحضاري ذاته يمنع ذلك قبل عشر سنوات.
وكشف أن الناقد سمير غريب ذكر في كتاب حديث له يحمل عنوان “معارك العمران” كيف قاوم عندما كان رئيسا لجهاز التنسيق الحضاري أصواتا ومطالب متعددة تطالب بهدم قصر أندراوس في الأقصر. ولفت إلى أن هناك جانبا في القصة “مازال غائما وغامضا وربما يعزز الشكوك بشأن وجود مصالح بعينها تقف وراء إزالة القصر”.
غير أن هذا القول لا يجد ما يؤيد صحته خاصة في ظل عدم جاهزية موقع القصر لإقامة مشروع سياحي كبير، إذ يدخل ضمن نطاق حرم معبد الأقصر الفرعوني، ويحظر قانون الآثار إقامة مشروعات تقع في حيز أي من الآثار. ويرى البعض من خبراء الآثار أنه مادام قصر أندراوس غير مدرج باعتباره أثرا تاريخيا، مصريا أو قبطيا أو إسلاميا، فإن هدمه جائز بحكم القانون.
ويقول محمد نبيل جاد مفتش آثار بمنطقة الأقصر، لـ”العرب” إن عمليات تنقيب غير شرعية جرت في القصر خلال السنوات الأخيرة من جانب بعض الأفراد المجهولين جعلت المبنى آيلا للسقوط، ولفتت الأنظار إلى أن بقاء موقع القصر دون خضوع رسمي للآثار يمثل تفريطا في كنوز محتملة.
البعض يخشى أن تؤدي عملية هدم القصر إلى استسهال هدم مبان أخرى لها أهميتها التاريخية للأسباب ذاتها
وشهد القصر جريمة غامضة عام 2013 عندما عثر على جثتي صوفي (82 سنة) ولودي (84 سنة) ابنتي أندراوس صاحب القصر مقتولتين دون التوصل إلى الجناة. وكانت الشقيقتان من أشهر نساء الأقصر المنتميات للعصر الملكي، إذ اشتهرتا بالجمال والأناقة، حتى أن أهالي الأقصر يحكون أن إمبراطور إثيوبيا السابق هيلاسلاسي هايلاماريام عرض على إحداهما الزواج لكنها اعتذرت لرفضها مغادرة مصر.
ويخشى البعض أن تؤدي عملية هدم القصر إلى استسهال هدم مبان أخرى لها أهميتها التاريخية للأسباب ذاتها تحت زعم صيانة الأثر الأقدم أو بحثا عن آثار محتملة غير مكتشفة.
وتشمل هذه المباني مسجدا شهيرا لأحد أولياء الله الصالحين هو سيدي الشيخ أبي الحجاج، الذي تلتصق جدرانه بجدران معبد الأقصر أيضا، والكثير من جدرانه تضم نقوشا بالكتابة الهيروغليفية ترجع لعهد بناء المعبد، ما يعني أنه تم إنشاء المسجد داخل المعبد القديم.
ويعاني مسجد أبي الحجاج في بعض أجزائه من تصدع كبير نتيجة تسرب مياه الصرف الصحي. وتعتقد شريحة من الأقصر أن “الدعاء في هذا المسجد مجاب”، وأن صاحب الضريح له كرامات عديدة مما يجعله مزارا للعامة من مختلف مدن الصعيد (جنوب مصر).
وتم ضم المسجد إلى مجموعة الآثار الإسلامية رغم أن أجزاء عديدة منه أقيمت في العصر الحديث ليتسنى منحه حصانة تمنع هدمه تحت أي زعم، تخوفا من غضب الأهالي وزوار الضريح.
