الدراما القديمة تُؤنس التونسيين في رمضان وخارجه

إعادة بثّ المسلسلات القديمة أسهمت في تعرّف الجيل الجديد على بعض الأعمال وأحيت ذاكرة مبدعين تونسيين لفهم النسيان.
الاثنين 2021/05/24
مسلسل "حرقة" مثّل الاستثناء بتطرقه إلى المشكلات الاجتماعية الراهنة

يحل موسم الدراما الرمضانية ويرحل ومعه عدد من الأعمال الدرامية والكوميدية التي تراهن على “اللمّة العائلية” (اجتماع أفراد العائلة) طوال شهر بأكمله لكسب نسب مشاهدة عالية وللتأثير في عقل المشاهد كي تعيش ضمن يومياته أطول وقت ممكن، فيستفيد القائمون عليها بارتفاع أجورهم في العام الذي يلي موسم الدراما الرمضانية. لكن الحال في الساحة الفنية التونسية يبدو مختلفا قليلا، فالمسلسلات القديمة ظلت منذ سنوات تتربّع على عرش الدراما وتستحوذ على عقل المشاهد والساعات التي يقضيها أمام التلفزيون وعلى الإنترنت.

تونس- انتهى الموسم الدرامي لرمضان هذا العام منذ أيام قليلة، لكنه كالموسم الذي سبقه سلّط الضوء على ظاهرة حديثة رسمت المشهد العام للدراما في تونس، حيث انصب اهتمام المشاهد التونسي على المسلسلات التلفزيونية القديمة على حساب الإنتاج الخاص برمضان 2021، مختارا بذلك السفر في رحلة حنين نحو ماض جميل ينسيه واقعه العصيب.

ورغم أن التلفزيون الرسمي التونسي خصص قناته الثانية منذ سنوات لإعادة بث أكثر المسلسلات التونسية شهرة إلاّ أن التونسيين، ورغم تكرار عرض تلك الأعمال القديمة، لا يملون من إعادة مشاهدتها العديد من المرات.

نوستالجيا محبّبة

معاذ بن نصير: التمثلات الاجتماعية سبب إدمان التونسيين على الدراما القديمة

فيصل بالزين: الأعمال الجديدة تطوّرت فنيا، لكنها فشلت في تجميع العائلة

نجحت القناة “الوطنية الثانية” (عمومية) للعام الثاني على التوالي في تصدّر نسب المشاهدة بسبب إعادة المسلسلات الرمضانية القديمة التي لاقت استحسانا كبيرا في صفوف التونسيين، وتكثر تعليقات مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي على الصفحة الرسمية للقناة بموقع فيسبوك المطالبة بمواصلة الإعادات وتحديد توقيت بثها حتى أنه صار شبه متحكم في برمجتها.

وتواصل القناة على سبيل المثال برمجة سلسلة “شوفلي حل” الكوميدية التي تتضمن ستة أجزاء وبثت منذ حوالي 15 عاما. ورغم إعادتها على مدار العام إلاّ أنها تتصدّر نسب المشاهدة في تونس، كما تُعيد القناة عرض مسلسلات أخرى نذكر منها “الخطاب على الباب” الذي بث منذ حوالي ربع قرن، ومسلسل “جاري يا حمودة” الذي عرض لأول مرة سنة 2004، ومسلسل “الدوار” (1992) ومسلسل “صيد الريم” (2008)، ومسلسل “عودة المنيار” (2005) و“قمرة سيدي المحروس” (2002) والعشرات من الأعمال الأخرى.

وأسهمت إعادة بثّ المسلسلات القديمة في تعرّف الجيل الجديد على القائمين على هذه الأعمال وأحيت ذاكرة مبدعين تونسيين صوّروا بكاميراتهم شوارع تونس وطباع سكانها وحكاياتهم، كالمخرجين صلاح الدين الصيد وعبدالقادر الجربي وحمادي عرافة والحبيب المسلماني وغيرهم. كما خلّدت أيضا أسماء موسيقيين تونسيين لحنوا الموسيقى التصويرية للمسلسلات، ومنهم الملحن التونسي الطاهر القيزاني وربيع الزموري وآخرون.

ويفسّر الممثل التونسي فيصل بالزين إقبال التونسيين على الأعمال الدرامية القديمة بأنها منتوج قادر على تجميع العائلة بكافة أفرادها وبجميع فئاتها العمرية لمُشاهدة هذه الأعمال دون حرج.

وبالزين هو ممثل كوميدي يعرفه عامة التونسيين بأسماء الشخصيات التي جسّدها في المسلسلات الرمضانية، ومنها شخصية “قميّر” أو “سطيش” في مسلسل “الخطاب على الباب” وشخصية “عزيّز” في مسلسل “منامة عروسية” و“فوشيكة” في سلسلة “شوفلي حل” الكوميدية.

ويرى الممثل التونسي أن الأعمال الدرامية الحالية شهدت تطوّرا ملحوظا على مستوى الصورة والسيناريو والأداء التمثيلي والتقنيات. لكنها غفلت عن أهم جانب لنجاح العمل وهو قربه من المشاهد وقدرته على جمع العائلة في مساحة واحدة والتي أصبحت مشتتة ولا تجتمع إلا في ما ندر.

وبالفعل فإن الإنتاج الدرامي في التلفزيون الوطني وإن شهد بعض الهنات في مواسم رمضانية سابقة إلاّ أن هذه المؤسسة التي تمتلك حقوق الملكية الفكرية لكافة الأعمال الدرامية القديمة منذ تسعينات القرن الماضي سرعان ما تداركت الأمر في العامين الماضيين بإنتاجين دراميين لقيا استحسان الجمهور والنقاد وهما “المايسترو” و”حرقة” وكلاهما من إخراج الأسعد الوسلاتي.

خلال الموسم الدرامي الأخير وردت على “الهايكا” أكثر من أربعة آلاف شكوى تعلقت بمضامين المسلسلات التلفزيونية

ومن الأعمال الدرامية الحديثة التي تم إنتاجها في سنوات ما بعد 2011 التي هبّت بحلولها رياح التحرّر على كل القطاعات قد يتذكّر التونسي مسلسلات بعينها، لكنه يربطها بظواهر ينفر منها المجتمع ويحاول محاربتها ويرى فيها مسلسلات تشوّه الجمال المتبقي من الواقع ولا تنقل صورة مثيرة عنه وإن كانت صورة عن ظواهر مجتمعية موجعة.

ويستنكر التونسي على المسلسلات الحديثة جرأتها في طرح الموضوعات “المحرّمة” سابقا وتحرّرها من القيود المجتمعية والفنية التي لطالما قيّدت كتاب السيناريو في ما مضى، ورسمت توجهات المخرجين وزوايا طرحهم وتناولهم للقصص الدرامية أو حتى الكوميدية.

وخلال الموسم الدرامي لرمضان 2021 وردت على الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري “الهايكا” أكثر من أربعة آلاف شكوى تعلقت بمضامين المسلسلات التلفزيونية.

ولا يخوّل القانون التونسي للهايكا ممارسة الرقابة على المصنفات الفنية وحرية الإبداع الدرامي، فهي “هيئة تعديلية” تتدخّل في حال رصد انتهاكات أو تجاوزات.

مقارنات موضوعية

"شوفلي حل" كوميديا تحاكي واقع التونسيين

"قمرة سيدي المحروس" دراما صالحت بين التونسيين وتاريخهم

"المايسترو" دراما اجتماعية تداركت هفوات الماضي

يوضّح الباحث في علم الاجتماع معاذ بن نصير في تصريحه لـ“العرب” أنه في كل عام، وتحديدا مع حلول الموسم الدرامي الرمضاني وفي الفترة التي تليه، تتصاعد نغمة النوستالجيا المعتادة، حيث ينشغل متابعو المسلسلات التلفزيونية بالحديث عن إنتاجات الماضي السعيد والماضي البسيط وكيف كانت المسلسلات قريبة من قلوب التونسيين وعقولهم على حد السواء، فيستحضر المُشاهد أغلب عناوين المسلسلات وأهم الشخصيات ويحاول عقد مقارنات ذاتية وجماعية بين أعمال الماضي والحاضر.

ووفق تحليل بن نصير ما يساعد على تفاقم هذه الحال عاما تلو آخر هو أن دراما المنزل، أو ما يطلق عليه مُسمّى الدراما العائلية، لم تعد رائجة جدا؛ فقد أصبحت الموضوعات أكثر حدة وسرعة، وصار طابع الإثارة والتشويق محرك اللعبة الإنتاجية والعملة المسيطرة في سوق الدراما. كما يرى أن مشاهد العنف سيطرت على الفعل الدرامي بتعلّة “هذا ما تطلبه السوق”، فمنطق الربح والخسارة والتسويق ساد على عقول المنتجين، وبذلك سرعان ما تصبح الأعمال الرمضانية الجديدة في طي النسيان.

ويرى الباحث التونسي أن حنين التونسيين إلى الأعمال الدرامية السابقة هو نوع من الهروب من واقع الدراما الحالية المعقد، فعلينا الإقرار بأن “الحياة نفسها اختلفت، فلم تعد بالبساطة التي كانت تتّسم بها الحياة في التسعينات أو الثمانينات من القرن الماضي. ولو نظرنا إلى الحبكات التي تدمع عيوننا الآن تأثرا عندما نتذكّرها لأدمعت عيوننا أيضا ولكن من فرط الضحك، فالبساطة التي يمكنك تسميتها بالسذاجة بضمير مستريح كانت تأسرنا تماما”.

ويرى بن نصير في تصريحه لـ“العرب” أن الأجيال السابقة ومن تجاوزت أعمارهم الثلاثين عاما قد اختاروا العودة بالذاكرة إلى ماضيهم والزمن الجميل عبر مشاهدة الأعمال الدرامية السابقة.

فحالة النوستالجيا التي تسيطر بكثرة على التونسيين منذ نحو عامين سببها حالة القطيعة التي يعيشها التونسي اليوم مع واقعه الاجتماعي والاقتصادي، والحنين إستراتيجية نفسية للهروب من الحاضر والغوص في الماضي الذي يبدو جميلا ومبهرا بصوره وحكاياته وأغانيه ومنوعاته وأحيائه (معماره) وعلاقاته الاجتماعية العميقة والبسيطة في الآن نفسه.

ويوضّح بن نصير أن التمثلات الاجتماعية التي يستحضرها الفرد عن الشخصيات والقيم والمفاهيم هي سبب إدمانه على الأعمال القديمة؛ فبمشاهدة صور الشخصيات البسيطة التي نجد أشباها كثيرة لها في أغلب المناطق التونسية الشعبية، وكذلك صور أزقة الحي والبطحاء والحومة (الحارة) وخصائصها، ترتسم سوسيولوجيا أغلب العلاقات الاجتماعية في سنوات التسعينات.

ولأجل ذلك يقوم من يشاهد أحد هذه الأعمال بإسقاط الحالة الدرامية على نفسه ويشعر بالشبه بينه وبين تلك الشخصيات ووجوده في تلك الحومة أو الحي (بروائح البخور التي تعبق فيه وضحكات الشخصيات التي تقطنه وعلاقاتها الاجتماعية المتماسكة)، فحتى العلاقات الدرامية في هذه الأعمال كانت ركيزتها التضامن والحب والتعاون والتآخي، وهي معان فُقدت حاليا في ظل مبدأ الفردانية الذي سيطر على النسيج المجتمعي.

كما يعتبر الباحث التونسي أن عمق السيناريوهات في الماضي هو ما جعل هذه الأعمال تعيش إلى اليوم مقارنة بالأعمال الحالية التي تعيش لمدة سنة على أقصى تقدير، مضيفا “أن الأعمال الدرامية الحالية تشتغل على الصورة لا على المضمون عكس الأعمال القديمة التي تصب اهتمامها على المضمون والمحتوى، ونحن ندرك جيدا أن مضمون العمل لا صورته هو من يأخذ حيزا ضمن ذاكرة المشاهد التي تثير حنينه إلى ذكريات زمن مضى أو إلى حالات تثير عاطفته”.

الأعمال الدرامية الحالية تشتغل على الصورة والتقنية عكس الأعمال القديمة التي تصب اهتمامها على المضمون والمحتوى

وخلال الموسم الرمضاني للعام 2021 راج في تونس مسلسل “حرقة” للمخرج الأسعد الوسلاتي، والذي رأى فيه التونسيون صرخة تعبّر عن وجع الآلاف من العائلات التي فضّل أبناؤها الهجرة غير النظامية عبر قوارب الموت على البقاء في وطن لم يعد يتّسع لأحلامهم.

وبناء على كل ما سبق يبدو أن الدراما التونسية ستكون في السنوات القليلة القادمة أمام تحدّ كبير لمحاولة جذب المشاهد وإقناعه بأهمية متابعتها كي تضمن العيش في ذهنه أكثر ممّا تعيش بين رفوف الأرشيف فيلفّها غبار النسيان.

17