نريد مكانا للانطوائيين

"لكل منا طريقته الخاصة للمضي قدما في الحياة ومن الخطأ أن نحكم على شخص بشكل سلبي لمجرد أنه يحمل طباعا وسلوكات قد تختلف عنا".
الأربعاء 2025/06/04
الانطوائي هو الشخصية الأكثر تركيزا مع نفسها

"لا أريد أن أكون وحيدا، أريد أن أكون وحدي"، هكذا صرخت أودري هيبورن (1929 – 1993) التي كانت واحدة من أشهر نجمات السينما في القرن العشرين. ومن منا لم يعش يوما هذا الشعور؟

قد تطرق هذه الرغبة باب قلبك مرات عديدة خلال الشهر أو الأسبوع، تأمل كم مرة تهربت من لقاءات الأصدقاء الصاخبة؟ وكم مرة اعتذرت عن حفل أو مناسبة اجتماعية؟ كم مرة تحججت بجدولك المزدحم كي لا تزور أحدهم، وفي الحقيقة قضيت يومك بالكامل على أريكتك لا تفعل شيئا.

لو تكرر هذا الشعور وأصبح ملازما لك، فمن المرجح أن تكون شخصا انطوائيا. هكذا يقول باتريك كينغ، أحد أشهر المدربين في فن المحادثة والتواصل وتعد كتبه من الأكثر مبيعا ومنها كتاب سماه “تذكرة نجاة للانطوائيين” وفيه درس حالته بعد أن اكتشف أنه شخصية انطوائية، وقدم نصائح لكل من يشعر أنه يهرب قدر استطاعته من الناس واللقاءات الاجتماعية، وكيف يعيد برمجة حياته وأهم الأساليب لشحن بطاريته الاجتماعية.

الانطوائية هي واحدة من أكثر ميزات الشخصية التي تناولتها نظريات علم النفس، وتم استخدام المصطلح لأول مرة عام 1920 في كتاب “الأنماط النفسية” لعالم النفس السويسري الشهير كارل يونغ، الذي رأى أن الانطوائي شخص يصب تركيزه على عالمه الداخلي وأنه لا يبحث عن محفزات من البيئة الخارجية وإنما ينهمك في أفكاره ويتميز بأنه شخص متأمل وحذر، كالقطة التي ترغب في اللعب، لكنها لن تتحرك قيد أنملة إن لم ترغب هي في ذلك.

قد يرى الغالبية أن الشخص الانطوائي شخص خجول أو متردد أو معقد أو شديد الخوف أو اجتنابي، لكن كل هذه الصفات هي صفات موجودة عند الجميع، انطوائيين واجتماعيين، إنما الانطوائي هو الشخصية الأكثر تركيزا مع نفسها وعالمها الخاص. والنموذج الاجتماعي المسيطر اليوم على تركيبة المجتمعات والذي يحظى باهتمام وتقدير الغالبية هو نموذج هجين فرضه العصر المنفتح والمتسارع.

يقول كينغ إن “معظم المجتمعات الغربية تعظم من شأن طبيعة الاجتماعيين مقارنة بطبيعة الانطوائيين، حتى أصبحت طبيعة الاجتماعيين هي النموذج المثالي الذي يطمح الجميع إلى الوصول إليه، وروج لهذا النموذج بكثرة في الإعلام والفن.” 

ويرى أن هذا الأمر انخدع به الكثيرون وسعوا إلى التطبيع معه وتغيير طباعهم، ومحاولة الظهور على هيئة الشخص الاجتماعي الثرثار والمرح وذي الطاقة العالية دوما.

في المقابل، يقول إن المنطقي والعقلاني أن يبحث كل شخص عن إيقاعه الخاص، أن يفهم ما الذي يفرغ بطاريته الاجتماعية وما الذي يشحنها، أن ينظر لنفسه بعين المحقق والمتعلم، وأن يجتهد في أن يتبع نفسه ويفعل كل ما يوازنها صحيا، لا أن يسير خلف ركب المجتمع المنحدر نحو التفاهة والتشابه المقيت ويصبح جزءا من قطيع ظن أن الشخص الصاخب هو الأفضل والجيد.

الانطوائية قد تحرم صاحبها من مميزات كثيرة، قد تحرمه كثرة الأصدقاء، قد تحرمه ترقيات في العمل لأنه ليس ذلك الموظف الصاخب الذي يتحدث كثيرا ويحدث ضجة حوله، رغم ذلك للانطوائي ميزات يمكن استثمارها، فهو لا يهتم بحب الآخرين له، يمتلك حصانة من الشعور بالملل جراء الوحدة، إنه صديق غير متطلب، شديد التأمل والملاحظة، شخص حذر ولديه نظرة ثاقبة للأمور وتحليل منطقي لشخصيات البشر. إنه شخص مدقق وانتقائي، في العمل والعلاقات والأفكار والسلوكيات. في المقابل يمارس الاجتماعي سلوكيات معاكسة، فتركيزه على الآخر الذي يشحن له بطاريته الاجتماعية يفقده التركيز مع ذاته أولا. رغم ذلك لكل شخصية مميزاتها، وبينهما يتكامل تكوين المجتمعات. وعلينا تقبل الاختلاف كي يجد الانطوائي مكانا مريحا له في بيته وعمله والمجتمع.

وعلى نهج كينغ أقول “لكل منا طريقته الخاصة للمضي قدما في الحياة ومن الخطأ أن نحكم على شخص بشكل سلبي لمجرد أنه يحمل طباعا وسلوكات قد تختلف عنا. إذا كنت تحب الشوكولاتة أو الإندومي لم تحكم بشكل سلبي على شخص ما لأنه يحب الكسكسي والبيتزا؟

18