فنانة لبنانية تحيل اللون الأسود إلى موقف من الحياة

تثابر الفنانة اللبنانية فاطمة مرتضى على تطوير نصها الفني خلال السنتين الأخيرتين اللتين تميزتا بتغيرات كبيرة على الصعيد العالمي بشكل عام وعلى الصعيد اللبناني بشكل خاص. وكانت أعمالها التي نشرتها على صفحتها الفيسبوكية دليلا هذا التبلور الفني الذي ساهم، من دون شك، في إرساء بعض من ملامحه انتشار وباء كوفيد – 19 والكوارث الاقتصادية والاجتماعية والبيئية التي شهدها لبنان بقسوة غير مسبوقة.
تعرض الفنانة اللبنانية المتعددة الوسائط فاطمة مرتضى، حاليا، العديد من أعمالها الفنية الجديدة على منصة فنية افتراضية مفتوحة على العالم.
أعمال على الورق اشتغلت عليها الفنانة بأحجام صغيرة سيطر عليها الأسود، ليس كلون بقدر ما هو موقف أكثر حدة ممّا قدّمته من قبل تجاه كل ما وقفت ضدّه إلى الآن.
عندما يُذكر اسم الفنانة تحضر حالا إلى الذهن أعمالها الفنية الجريئة، ولاسيما تلك التي قدّمتها في آخر معرض لها في صالة “مارك هاشم” اللبنانية. وعلى الرغم من كون هذه الأعمال عُرضت في معرضها الفردي الأول إلّا أنها كانت على مستوى كبير من النضج الفني والفكري على حدّ السواء.
هي مبدعة عرفت منذ بداية انطلاقتها الفنية ماذا تريد؟ وكيف تفكّر؟ ولا تتوانى على هامش ذلك عن استخدام الألفاظ البصرية/ الفنية الأكثر جسارة، ولنقل الأكثر “وقاحة”.
أنوثة سعيدة
البعض يعتبر فاطمة مرتضى فنانة “نسوية” غير أنها لا تستسيغ هذا التصنيف (وهي مُحقة)، لأنها ترى فيه تحجيما لما تريد التعبير عنه. وفي اعتقادها أن “الفنون النسوية” تجيء عادة كردة فعل عاطفية ضد الرجل بشكل عام وحضوره على أساس أنه عدوّ شامل وكامل يجب إما “التمثيل” به، أو محاربته كيف ما كان وبغض النظر عن أفعاله حتى تلك التي لا “تُعاند” حقوق المرأة.
دفاعها عن المرأة من خلال مجمل أعمالها الفنية (رسومات ولوحات وتجهيز فني) كان دائما محور انشغالها. منذ بداية مسيرتها الفنية وقفت ضد المجتمع الذكوري وما يُفرض على المرأة من حجر للحرية الشخصية وعدم اعتراف بحقوقها كإنسان، ولاسيما في مجتمعاتنا الشرقية التي لا تزال بالرغم من خفوت نبرة العداوة تجاه المرأة، مُجحفا في حقها.
قد يسأل البعض: ماذا قدّمت فاطمة مرتضى من جديد؟ ألم يتناول الفن النسوي ومنذ أكثر من خمسين عاما شؤون المرأة، وأحيانا كثيرة يتطرق إليها بشراسة لا تقل عن “شراسة” الفنانة؟
قدّمت الفنانة الجديد أولا من حيث المضمون، فالمرأة في القسم الأكبر من أعمالها غير حاضرة على أنها ضحية تعيش صراعات، وحين يحدث أن تحمل امرأةُ فاطمة مرتضى جراحَها وقيودَها متمثلة، أو محاطة، أو مشغولة بالخيوط التي نسجتها الفنانة إمّا لونيا وإمّا فعليا باستخدامها لخيوط حقيقية، فهي تحملها غير مبالية بها وغير مُتعبة، لا بل تحملها كلها بعد أن حوّلتها زينة تتزيّن بها.
إنها امرأة سعيدة بأنوثتها التي لا تتوقّف عن اكتشافها في كل تجربة معيشية أو روحية، متباهية بغناها ولو كره الكارهون.
دماء الحياة
جراح وقيود تظهرها بفجاجة حسية كمن يُشهر ظلما لن ينال مراده، أو تشهرها بوضوح حارق تستفزّ به نظرة الرجل إليها. وغالبا ما تكون ردة فعل الرجل الناظر إليها إمّا غضبا من جسارتها، وإمّا استمتاعا سريا بإحساسها المُفرط وبرضوخه الضمني إلى ما جرى على تسميته بـ”الجنس الضعيف”.
هو في الحقيقة جنس ليس بضعيف ولم يكن يوما ضعيفا، بل يتفرّد بالتباهي بما يعتبره الآخر ضعفا، والفرح بإعلان ما يستسيغه جسدا وروحا، والتصريح بما لا يعنيه أو لا يقيم له أهمية، وأيضا ما يفتخر به وما لا يرضيه فيقف في وجهه موقفا صارما لا لبس فيه.
هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى فقد استبدلت الفنانة، ولاسيما في أعمالها الأخيرة رأس المرأة برأس حيوان غالبا ما تكون له قرون حادة. وهذا ما رأيناه أيضا في أعمالها المعروضة على المنصة الافتراضية.
وللفنانة فلسفة خاصة حول ذلك، فهي تعتبر أن المرأة هي بصلة وثيقة مع الطبيعة بكل كائناتها ومن هنا تستمد قوتها الأساسية التي لا يستطيع أي رجل أن يقف ضدها إلى ما لا نهاية. وقوّتها تستمد أحقيتها من هذه الطبيعة التي لا أحد يستطيع أن يستمر دونها رفضا أو تطويعا.
وهي بجعلها المرأة برأس حيوان، ترفعها إلى مقام الأسطورة دون أن تجعلها أيقونة مقدسة. فمجرد صلتها القوية مع الطبيعة كفيلة بأن تجعلها كائنا وكيانا لا يهزم.

هكذا أدخلت الفنانة المرأة مؤخرا عبر نصّها الفني (كما في لوحاتها الجديدة) إلى عالم الواقعية الممزوجة بالسحر. وظهرت بشرايينها الظاهرة من تحت جلدها. شرايين تتفتّح فيها أزهار وورود وأعشاب ضارة وغير ضارة وتجري فيها دماء رقراقة هي الحياة ذاتها. تلك دماء متجدّدة لا تموت إلّا بفناء الجسد.
أما من ناحية الأسلوب، فقد شهد تطوّرا واضحا في أعمالها الجديدة، فمن ناحية بدت المرأة التي وضعتها الفنانة مُختزلة تغيب عنها التدرجات اللونية كما تغيب أنصاف الحلول. أعمالها الجديدة هي صفعة ضد المجتمع بشكل عام. وليس فقط ضدّ المجتمع الذكوري الذي اتسعت حدوده ليطول نظام الفساد العام الذي يرزح تحت ثقله المجتمع اللبناني. ولا غرابة في ذلك فقد صرّحت أنها تنسى أحيانا أنها فنانة لشدة ما تعتبر ذاتها ناشطة سياسية في مجال الحريات وحقوق المرأة.
بدت أعمالها الجديدة أكثر هدوءا ولم تعد تميل إلى “خدش الحياء” عن سابق إصرار وتصميم، ربّما لأن نصها الفني تخطاه بأشواط فصار فكرا مُستقرا ومُعتمدا يواجه به العالم المحيط.
الفنانة فاطمة مرتضى حاصلة على شهادة الماجستير في الفنون البصرية من جامعة ساوثامبتون في بريطانيا، وعلى دبلوم في الفنون التشكيلية ودبلوم فلسفة من الجامعة اللبنانية. وشاركت بلوحاتها في العديد من المعارض الفردية والجماعية في بيروت وعمّان وتونس وباريس ولندن.