حكايات الصغار تقتحم عوالم التكنولوجيا

هناك فهم مغلوط في الثقافة العربية مفاده أن الكتابة للأطفال أو الأغاني والمسرح والسينما وغيرها من الفنون الموجهة للطفل، تأتي في درجة أقل قيمة من الإبداع الموجه للكبار. وهذا ما خلف فقرا في الإبداع للأطفال حاول الكثير من الأدباء والفنانين تجاوزه ومن بينهم الكاتبة المصرية سماح أبوبكر عزت التي كان لـ”العرب” معها هذا الحوار.
تواجه الكتابة للأطفال تحديات كثيرة في عصر الصور المتحركة وثورة الاتصالات والمعلومات وانخراط الصغار في اهتمامات وانشغالات مختلفة، على رأسها مواقع الإنترنت وصفحات السوشيال ميديا، ما يجعل الكتاب المطبوع الموجه للطفل مغامرة حقيقية تتطلب خطابا متطورا يلائم مستجدات العصر ويواكب نضج الطفل ووعيه ومعرفته.
ومن هؤلاء القابضين على الجمر، سماح أبوبكر عزت، التي قدمت للمكتبة العربية قرابة أربعين مؤلفا متنوعا للأطفال، ونالت جوائز عالمية عدة، ووصلت قصتها “الدائرة الحائرة” مؤخرا إلى قائمة الشرف الصادرة عن الهيئة الدولية لكتب اليافعين “IBBY” لعام 2020. وقد التقت “العرب” الكاتبة المصرية لمناقشتها حول حاضر أدب الطفل ومستقبله وقضاياه.
على الرغم من خوض عزت تجارب في كتابة السيناريو لقصص الأطفال، وتأليف الأفلام والمسلسلات والفوازير وحلقات العرائس والكارتون والصلصال وخيال الظل وغيرها، فإنها تعتبر أن الكتب المطبوعة التي تتضمن حكاياتها للصغار مجالها الأول، وتراهن على تكريس وتطوير هذا اللون ليصمد جنبا إلى جنب مع الأساليب العصرية لمخاطبة الطفل.
الدهشة البكر
سئل الكاتب الأيرلندي صمويل بيكيت “لماذا لا تكتب للأطفال؟”، فأجاب قائلا “لأنني لم أنضج بعد”. وتؤكد سماح أبوبكر عزت لـ”العرب”، أن الكتابة للأطفال لم تكن يوما بالأمر السهل، بل هي في الواقع مأزق إبداعي، وفخ وعر، لكنه فخ بالغ الجمال.
وتلفت صاحبة “صهيل من ذهب” و”الحائر بين الأرض والسماء” و”فأر في بيت تامر” و”أصدقاء من الألف إلى الياء”، إلى أن الكتابة للطفل يجب أن تجمع بين العمق والبساطة في آن، لكنه العمق دون تعقيد، والبساطة دون سطحية أو مباشرة.
إن كاتب الأطفال الناجح هو طفل يكتب، بمعنى أنه ذلك الذي لا تغادره طفولته مع الأيام، فيكتب بروح طفل تدهشه كل المفردات، فالدهشة هي بداية المعرفة، ويظل دائما يسكنه قلب طفل، وعقل حكيم، وروح شاب. وليس مهما ذلك الحديث عن الأطفال، فالأهم لكاتب الأطفال هو التحدث أو الحوار مع الأطفال، وهناك فرق كبير بين “عن” و”مع”.
بدأت علاقة عزت بعالم الطفل من خلال الدراما، ثم اتجهت إلى الكتب، ليقينها أن الكتاب باق مهما مر الزمن، ويرى البعض أن الكوميكس والأفلام والمسلسلات المتحركة، سواء عبر الفضائيات أو عبر الإنترنت، هي التطور الطبيعي للكتابة للطفل، بعد تعذر أمور الطباعة وتأثر حركة نشر الكتب في الآونة الأخيرة، وغلاء أسعار الورق والأحبار وتكاليف الطباعة، واتجاه التعليم صوب المنصات الإلكترونية.
وتشير الكاتبة المصرية إلى أن الكوميكس والأنساق الجديدة لا غنى عنهما، لكنهما “ليسا بديلا عن كتاب الطفل، فكل يؤدي دوره، ويسهم في تنمية خيال الطفل، ومهما تطور ركب التكنولوجيا، يظل للحكاية رونقها. وفي عصرنا الحالي لا بد أن تأخذ الحكاية شكلها الجذاب، الذي يدهش الطفل، فتقتحم عالمه وتخاطبه بما يشغله، بأسلوب بعيد عن المباشرة والوعظ”.
ولا يستطيع أحد أن يُغفل دور التكنولوجيا في حياة أطفالنا، ولذلك فإن جرى توظيفها بشكل إيجابي يضيف لهم المعرفة ويمنحهم البهجة، فقد تحققت المعادلة الصعبة: “القصص واحة الخيال، يعيش أحداثها الطفل، ويتفاعل معها، ومما لا شك فيه أن نشرها على المواقع الإلكترونية مثلا قد يجعلها أكثر قربا من عالم الطفل، وهذا يدعم نشرها ورقيا، ويكمله”.
بلغتْ عزت قائمة الشرف في جوائز المجلس الدولي لكتب اليافعين بسويسرا عن قصة “الدائرة الحائرة”، الصادرة عن “نهضة مصر” برسوم الفنانة صباح كلا، وتدور حول تقبل الآخر وثقافة الحوار واحترام الاختلاف، وتمكنت في عملها من المزاوجة بين الإمتاع والتسلية والتشويق من جهة، والإفادة والإقناع وتقديم رسالة إنسانية من جهة أخرى.
توضح لـ”العرب” أن القصة التي تدرج بقائمة الشرف لها شروط عديدة، على رأسها أن تتناول موضوعا فلسفيا بشكل بسيط وعميق، وأن تتبنى فكرة تقبل الآخر والتعايش السلمي، وألا تنحصر في تقاليد مجتمع ما ومشكلاته.
ومن خلال تواصلها المباشر والدائم مع الأطفال بمختلف الجغرافيات، لاحظتْ أن أسلوب العصر طغى على علاقاتهم وتعاملهم مع بعضهم البعض، فسريعا ما يدب الخلاف بينهم، ويتشبث كل منهم برأيه دون أن يستمع للطرف الآخر، وكثيرا ما يكون كل منهم على صواب، والمدهش أنه قد يتلاشى سبب الخلاف، ويستمر الشجار بينهم.
وسعت إلى معالجة هذه الظاهرة من خلال قصة تؤسس لأهمية تقبل الآخر، وتُبيّن فكرة أن الاختلاف لا يعني الخلاف، وتبرز الفرق بين الحوار والشجار.
تقول “بعد تفكير طويل، اهتديت إلى ‘الدائرة الحائرة‘ بين ظلام الليل ونور النهار، بين برودة الثلج وحرارة النار، فهي دائرة تسكن السماء، اختلف حولها الأصدقاء وتصارعت الطيور والكائنات، فمنهم من يراها ذهبية تنشر النور وتشرق في الصباح، والبعض الآخر يصر على أنها فضية تسطع في الظلام، وكلاهما كان على صواب، فالدائرة الحائرة هي الشمس التي تشرق في الصباح، والقمر الساطع في المساء”.
شفافية التناول
إن طفل هذا العصر يحتاج إلى أن نخاطبه بشفافية، كونه يطلع على الكثير من الأحداث في العالم من حوله، لذا صارت قصص الأطفال تتناول موضوعات ربما لم تكن تتعرض لها من قبل، مثل علاقة الأطفال بوسائل التواصل الاجتماعي.
وقدمت الكاتبة المصرية أكثر من قصة تناقش هذه الظاهرة، منها “المنزل الأزرق” الذي تعني به فضاء الفيسبوك، وهي القصة التي وصلت إلى القائمة القصيرة بجائزة الشيخ زايد لأدب الطفل في أبوظبي.
وهناك قصص تعرضت لموضوع الحرب، وكيف يعاني البشر ويلاتها، وكيف يتفاعل الأطفال مع واقعهم، وهناك قصص تناقش عمالة الأطفال، وانتشار حالات الطلاق، وكيف يتعايش معها الطفل، ومفهوم المواطنة وتقبل الآخر، والخصوصية والحفاظ على الأسرار.
وترى أن الطفل يحتاج إلى أن نحترم عقله، ولا نخاطبه بأسلوب سطحي ساذج، فحينها سينصرف عن القصة، مهما كان مضمونها أو هدفها، ولا بد من تغيير لغة الخطاب الموجه للطفل لتواكب التطور التكنولوجي، وثورة المعلومات، ونضج عقلية الطفل وزيادة وعيه وإلمامه المعرفي.
ومع هذه المستجدات، فإن تفاعل الأطفال مع ورش الحكي التي تقدمها الكاتبة داخل مصر وخارجها يظل يمنحها الأمل في عودة الكتاب إلى عرشه، وهذا ما شجعها على تقديم برنامج للأطفال على شاشة التلفزيون المصري بعنوان “إحكي يا ماما سماح”، لتقص في كل حلقة منه حكاية من أعمالها، ويدور حوار حول أحداث القصة مع الأطفال المشاركين.
وتدين عزت بالعرفان لجيل الرواد من كتاب الأطفال، من أمثال يعقوب الشاروني وغيره، موضحة أن الكثيرين من الأدباء العظام قد خاضوا تجربة الكتابة للأطفال بحب وفخر، منهم أديب روسيا تولستوي الذي وصف نفسه بأنه “كبير بكتابته للأطفال”.
وتقول، في حوارها مع “العرب”، “لقد أدرك الجيل الحالي من كتّاب الأطفال أن عليهم مواصلة المسيرة بأسلوب مغاير يتقبله الطفل اليوم، ذلك الطفل الذي قد نكتب له عن التنمر ونبذ التفرقة العنصرية وغير ذلك من القضايا الجادة التي طرأت على المجتمع، شأنه شأن الكبير”.
وتعتقد الكاتبة أن اهتمام دور النشر العربية بالكم على حساب الكيف من أبرز المشكلات والعوائق التي تواجه الكتابة للطفل، فالعملة الجيدة صارت نادرة، ودور النشر تسعى إلى التنافس على الجوائز الدولية، دون النظر إلى ما يلائم الطفل في بعض الأحيان.
ومن المشكلات التقليدية زيادة التكلفة، ونقص الإمكانات البشرية والمادية، وندرة دور النشر المتخصصة في كتب الأطفال. ومع ذلك، انتشرت مؤخرا ترجمة العديد من القصص العربية إلى اللغات الأجنبية، وحصدت جوائز دولية مرموقة، وهو أمر مبشر في ظل أزمات النشر المتتالية.