الحجاب بين استبدادين سياسي واجتماعي

قد يرى البعض ضرورة أن يشمل عنوان المقال استبدادا ثالثا، هو الاستبداد باسم الدين، ليسبق الاستبدادين السياسي والاجتماعي. وأتجنّب هذا؛ فلا أبحث قضية الحجاب من وجهة نظر شرعية، أو فقهية باسم الدين. وإنما أقترب من ظاهرة اجتماعية شبه قاهرة، وذات أبعاد نفسية، وترتبط أيضا بالظرف السياسي والحالة الاقتصادية، إضافة إلى كفاءة ذهنية تجعل صاحبها ندّا يتمتع بمرونة تجعله يقبل الآخر مهما تكن درجة الاختلاف، من دون شعور زائف باستعلاء ديني أو فكري أو طبقي.
وبعد المقالين السابقين “الحجاب الفريضة التي اكتشف الكثيرون أنها كانت غائبة” و”أتتزوج متبرجة؟ سؤال العصر الرهيب”، قيل لي إن التشدد في مسألة الحجاب يصطنعه المستبدون للإلهاء.
قيل لي أيضا إن إثارة قضية الحجاب ترف، في ظل قبضة استبدادية تكاد تكون غير مسبوقة. جملة تثير الشجون، وتعيد التذكير بميدان التحرير، في لحظة مضيئة تصل عام 2011 بعام 1919، والرابط بينهما هو اقتران تحرير الجسد بتحرّر الوطن، وانتفاء أي وهم يوحي بأن لطبيعة ثياب المرأة علاقة بالأخلاق، فلم يشهد ميدان التحرير حتى إعلان خلع حسني مبارك حالة تحرش جنسي بامرأة، أو ديني بمسيحيين، إلى أن رأيتُ مساء الثلاثاء 8 فبراير 2011 مشهدا دالا، وقد اقترب قطف الثمرة. دفعني الشاب الملتحي، ودفع غيري، معلنا للجميع عن “مسيرة الأخوات”. سألته عن معناها فأجاب: “مسيرة الأخوات يعني مسيرة للأخوات”.
كان الميدان فضاء للحرية والسمو الأخلاقي عن أي سفاسف. ومع اقتراب تحوّل الثورة إلى دولة تخضع لتصورات الحالمين بالتمكين بدأ التأطير. وجسد المرأة أول مظاهر التأطير المفروض والطوعي معا. في تلك الليلة كان رجال وشبان بقمصان وجلابيب قصيرة، يتفقون في إطلاق لحاهم بأطوال متفاوتة، ويختلفون في حلق الشوارب، يشكّلون بأذرعهم المتشابكة دائرة سرعان ما تتغير وتتخذ، حسب طبيعة جغرافيا الميدان والزحام، شكل مستطيل أو مربع، أو طابعا متحركا يشبه الأميبا، وفي الوسط نساء محجبات ومنقبات بجلابيب سود، لا فرق بين امرأة وفتاة، إذ تستتر ملامح الوجوه القليلة السافرة وسط كائنات كثيرة يلفّها السواد. لهذا التأطير نماذج في إيران وأفغانستان والسعودية.
مظاهر التأسلم ذات الطابع السياسي يسهُل التحايل عليها، ولكن التأسلم الاجتماعي بالتقادم يسري في الدم، عقيدة يصعب التخلي عنها؛ فكل شخص ينصّب نفسه قاضيا
لم أضف مصر إلى هذا المثلث الإيراني والأفغاني والسعودي قبل تحول عاصف بقرار سياسي أنهى حقبة التشدد. يفرض الحجاب في أفغانستان وإيران، وحين حذفته السلطة السعودية من قائمة الواجبات تنفسّت النساء، وكان الحجاب محدودا بجغرافيا الحجاز، وخارج المملكة مارست النساء الحياة استجابة لحرية الاختيار، لا لقهر الضرورة.
قبل سنوات سألت مخرجة إيرانية في مهرجان سينمائي بنيودلهي: كيف تحتملين التشدد الرقابي في بلادك؟ فرفعت الشال عن كتفيها، وغطت به شعرها إلا قليلا، وقالت “هكذا”. سلوكها يقول إن مظاهر التأسلم ذات الطابع السياسي يسهّل التحايل عليها. ولكن التأسلم الاجتماعي بالتقادم يسري في الدم، عقيدة يصعب التخلي عنها؛ فكل شخص ينصّب نفسه قاضيا.
أصبحت ظاهرة الحجاب أكبر من النظام السياسي. وكان الحجاب عنوان المدّ الإخواني في سبعينات القرن العشرين، لتمييز “الأخوات” عمن لم يكتمل إيمانهن. وبمرور الوقت تحجّبت الأغلبية، فكان لا بدّ من تمييز جديد يسِم “الأخوات” بحجاب مشدد عن الحجاب العملي لعموم المصريات. يمكن مثلا أن تقارن حجاب مذيعات قناة “المنار” بشكله ولونه، فلا يشبه غيره في العالم الإسلامي، ليصلك بعض الشك في اعتباره “يونيفورم” تفرضه المؤسسة، وهذا حقها. والحجاب في مصر متعدد، يشير إلى الانتماء الديني والطبقي لصاحبته. وبعد خروج السعودية من هذا المثلث، لم أضع مصر بجوار نموذجيْ أفغانستان وإيران، فهما يفرضان الحجاب، ضمن حزمة مظاهر تشمل زي الرجل أيضا.
يختص الحجاب المصري الحالي بتجسيده عولمة دينية عكسية، موجة احتجاجية مضادة للجينز الأزرق، ذلك العولمي الذي عبر الثقافات والطبقات، وطمس أزياء وطنية في الكثير من البلدان. وقد حجب الخمار مظاهر اجتماعية لا يعرفها الجيل الحالي في القرى. حتى السبعينات كانت الفتاة تلبس الطرحة بعد الزواج فقط، وقبله تضع ما يستر الشعر دلالة على أنها آنسة، فإذا تزوجت في سن الخامسة عشرة أو الثلاثين التزمت مباشرة بارتداء الطرحة، دلالة على انتقالها إلى مكانة السيدات. ولم تكن “تلك” الطرحة تحمل دلالة إيمانية، وإنما هي تقليد وعرف اجتماعي، حتى أن النساء المسيحيات كن يلتزمن بارتدائها اختيارا، لأنها زيّ اجتماعي لا يفرقهن عن المسلمات.
نجحت ثورة 1919 في الوصول إلى الحكم، وكان زعيمها سعد زغلول أول رئيس وزارة تستند إلى دستور 1923، وبهذا النجاح نسفت المسافة بين الحريات الشخصية والتحرر الوطني الجزئي. وفي ذروة الانتشاء بخلع ثورة 25 يناير 2011 لحسني مبارك رأى البعض، بحسن نية، تأجيل الحريات الفردية؛ انتظارا لإنجاز قضايا كبرى ما إن تحسم حتى تعيد إنتاج الاستبداد السابق، كما أثبتت تجربة ما بعد يوليو 2013.
وبالعودة إلى ملاحظة البعض، في نهاية الفقرة الأولى، عن اصطناع المستبدين لقضية الحجاب بهدف الإلهاء، فالأمر يتعدى الإلهاء إلى السيطرة على الجسد، والتحكم في السلوك الشخصي، بعيدا عن سنّ قانون للعقاب، فلا أقسى من العقاب الاجتماعي.