محمد طعيمة.. كاتب صحافي امتلك جسارة انتقاد مبارك والإخوان والسيسي

بوفاة محمد طعيمة، في 24 ديسمبر 2024، يفقد المشهد المصري قيما مهنية وإنسانية مثّلها كاتب صحفي لم يخذله الرهان على آمال التغيير، منذ عهد حسني مبارك إلى الآن. تسلّح رهانه بالمعلومات لا الهتافات أو الأمنيات. ولم يتردد في إبداء رأيه، مهما يكلفه من عقاب لا يقتصر حاليا على المعارضين، بل يشمل الصامتين عن قول "نعم."
لم يُعرف عن طعيمة ما احترفه آخرون من إشاعة اليأس، وتعميم الروح الانهزامية. لعله تحامل على نفسه، حمّلها من التفاؤل أكثر مما يسمح به السياق الضاغط. يوجد مرض قديم هو الاكتئاب السياسي، اكتئاب ما بعد الثورات، وقد أصاب الكثيرين في مصر بعد تعثّر ثورة 25 يناير 2011. طعيمة وجد العلاج بالكتابة، كان متفائلا، فحاصروه، ومنعوه من النشر، منذ أصدر كتابه النبوءة "انتحار تاريخي: ما تيسر من حكم السيسي" عام 2015.
لي مع هذا الكتاب قصة. صدر وأنا مشغول برئاسة تحرير مجلة "الهلال"، لا يتاح لي ترف الكتابة، ولاحظت إحاطة الكتاب بالصمت، ما يشبه القتل، والظروف العامة آنذاك أقل حماقة من الآن، ولم يهتم أحد بكتابة خبر، أو مقال ينتقد ما كتبه المؤلف، وينفي الذهاب إلى "انتحار تاريخي." قدّمتُ الكتاب إلى صحفي غزير النشاط في النشر عن الكتب، يحترف الانتقاد الفيسبوكي للأوضاع السياسية والاقتصادية، ليكتب عنه لمجلة الهلال. لمح العنوان، فأعاد إليّ الكتاب. لامني واتهمني بالتهوّر؛ لأنني فكرتُ في دعوته إلى ارتباط اسمه بكتاب "يودّي في داهية"، فكتبتُ في صحيفة "العرب"، في 3 أبريل 2016، مقالا عنوانه "كاتب قال كلمته في قلب الضجيج والخطر."
أحسست بالذنب، حين قال لي محمد طعيمة إن المقال "نبّههم" إلى الكتاب، ولولا ذلك ما ضيقوا عليه في عمله، ولم يجد دعما من أصدقائه الناصريين، كلٌ يتحسّس الخطوة التالية، ولا يغامر بالتضحية بلقمة عيش في يديه أو موعود بها، وما أكثر الوعود والوعيد في زمن يعزّ فيه الأمان. لكنه لم يندم على نشر الكتاب الذي لم تصدر منه طبعة ثانية. لعل الطبعة الأولى طويت طيّ السجل، منعا للتعنت الأمني مع الناشرين المصريين الذين أخفوا كتبهم عن ثورة يناير. وهذا السلوك المتوتر، المطارِد للكلمة، يعلي من شأن الحريات في عهد حسني مبارك. كانت عناوين بعض الكتاب تحديا صريحا لمبارك، بل إن كتاب طعيمة "جمهوركية آل مبارك" صدرت منه خمس طبعات.
الجمهوركية نحت لغوي مبتكر، يجمع الجمهورية والملكية معا، ويؤكد اختلاط المفاهيم والاصطلاحات، وتحوّل الجمهورية إلى حكم ملكي يتوارثه الأبناء. في عام 2004 تأسست الحركة المصرية من أجل التغيير "كفاية"، ورفعت شعارا له بلاغة الإيجاز: "لا للتمديد، لا للتوريث."
عمل طعيمة منسقا إعلاميا لكفاية عند تأسيسها. كان أول من أثار قضية توريث حكم مصر لجمال مبارك، في مقالات متوالية بصحيفة "العربي"، لسان حال الحزب الناصري، ثم نشر كتابه "جمهوركية آل مبارك" عام 2006. توالت طبعاته بمقدمة ثابتة للروائي المصري صنع الله إبراهيم الذي اعتبره سجلا تاريخيا لصعود جمال مبارك، وتوثيقا "لفضيحة التوريث، ويلقي الضوء على كثير من تجلياتها وشخوصها،" منذ الخطوات الأولى لجمال مبارك، وبداية إعداده، كما "يسجل للمؤلف أنه ـ في وقت كان الاقتراب فيه من العائلة الحاكمة من المحظورات ـ من أوائل من تعرضوا إلى دور زوجة الرئيس المتشعب في الحياة السياسية.. وما زلت أتذكر مشاعر الإشفاق بعد كل مقال من مقالاته، والصعوبات التي واجهها بسبب مواقفه. ولا أنكر أني خفت عليه بعد أن قرأت هذا الكتاب. لكنْ هناك في الحياة أدوار مُقدرة مهما بلغت فداحة ثمنها،"
في حدود معرفتي، هذا هو الكتاب الوحيد الذي يتغير عنوانه الفرعي في كل طبعة، تبعا للمؤشرات وتأرجح القوى، وصراع الحقائق وتفاعلاتها. عام 2009 حملت الطبعة الثالثة، من "جمهوركية آل مبارك" عنوانا فرعيا هو "صعود سيناريو التوريث،" ويرد فيه قول باحثة أميركية إن مبارك يواصل "إعداد جمال رغم استياء جنرالاته." وفي العام التالي، 2010، خلا الطبعة الخامسة من العنوان الفرعي، فتفاءلتُ بتراجع سيناريو التوريث، وسألت المؤلف آنذاك: هل انتهى مشروع التوريث؟. فقال: الجيش مُصرّ على الرفض!
هل يدعونا عنوان الكتاب، وغلافه الساخر، إلى الأسف على مبارك ونظامه؟ إطلاقا؛ فمن البذور التي وضعها مبارك ـ ومنظومة الحكم التي أتت به وأبقته في منصبه ثلاثين سنة ـ نبتت ثمرةٌ بمرارة فشل الثورة التي خلعت مبارك، ثم فوجئ الحالمون بالتغيير برجوع نظام مبارك، بصيغة أكثر شراسة وعسكرة.
بالكتب الثلاثة "جمهوركية آل مبارك" و"خيانة الإخوان المسلمين: فقه التلّون" و"انتحار تاريخي: ما تيسّر من حكم السيسي"، وثّق محمد طعيمة شهادته على ثلاثة أنظمة للحكم في مصر. كل شهادة لا تنتظر زوال نظام الحكم أو إزالته. هنا جسارة نقد يتجاهل العواقب، ينطلق من رؤية كاتب يعلن أنه ابن الدولة الوطنية، يرى جمال عبدالناصر ذروة تمثيلات الإخلاص لهذه الدولة. والنقد ينطلق من الْتزام نظام الحكم بالوفاء باستحقاقات الدولة، أو انحراف النظام عن مسؤولياته بتراجع الكفاءة أو الوطنية أو كليهما. تمتع المؤلف بالدأب، وتقصّي الدقة المكتسبة من خبراته الصحفية والميدانية. ولد طعيمة في 21 يوليو 1964. وخلال ثلاثين عاما في الصحافة، تولى مناصب منها مدير تحرير جريدة "العربي" الناصري، والإشراف على قسم الأخبار بجريدة "البديل" اليومية، ومدير تحرير بوابة "الوفد"، وفي عام 2011 تولى إدارة تحرير مشروع صحيفة "الحرية" 2011، ولم تر النور رغم إتمام ترخيصها وتحديد هيكلها الإداري.. محمد حسنين هيكل راعيا، وحمدي قنديل رئيس مجلس الإدارة. وآخر المناصب، التي لم يكن يسعى إليها، مدير تحرير مراقبة الجودة بجريدة "الوطن" اليومية، بداية من يناير 2015 حتى 2019.
طعيمة لم ينتظر رحيل الإخوان، ليستقوي عليهم. أثناء حكمهم، نشر كتاب "فقه التلون: خيانات الإخوان المسلمين" عام 2012. في خطاب الإخوان ومواقفهم، بامتداد وجودهم في العالم العربي، يوجد "على كل الأصعدة، تلوّن يصل حد الانتهازية الصادمة." من تجليات التلون الثقافي والتربوي أن معظم قياداتهم يعلمون أولادهم في مدارس وجامعات أجنبية، وفي الوقت نفسه يوجهون إلى قواعدهم خطابا "يعتبرها غزوا ثقافيا، وأحيانا صليبيا." التلون السياسي يجعل الإخوان يتخلّون في بلد عن مبادئ لا يتنازلون عنها في بلد آخر. في سوريا والمغرب يقبلون دولة "مدنية"، ولو قادها شيوعي أو ملحد. وفي مصر يقاومون نصّاً دستوريا على مدنية الدولة. ويرفضون فكرة ترشّح مسيحي للرئاسة. وتحدث أحد مرشحيهم في الانتخابات البرلمانية عام 2005 عن "إحياء الجزية." وفي عام 1997 صرح مصطفى مشهور مرشد الإخوان آنذاك، بعدم جواز إلحاق المسيحيين بالجيش المصري؛ "لأنه سيكون مشكوكا في ولائهم.. بدلا من ذلك يجب أن نلزمهم بسداد الجزية." وأضاف أنه لا يجوز إلقاء السلام عليهم.
◙ طعيمة، كما انتقد الإخوان أثناء وجودهم في قمة السلطة في مصر، تجاسر على انتقاد سياسات عبدالفتاح السيسي. هناك فرق في النوع، لا الدرجة، بين الانتقادين
في السودان تحالفوا مع عمر البشير. وفي سوريا لم يجدوا حرجا في "انفرادهم" في يوليو 2011 من دون بقية معارضي نظام بشار الأسد، بالمشاركة في مؤتمر دعا إليه "الصهيوني الفرنسي" برنار هنري ليفي، المعروف بصداقته لنتنياهو. مثّل إخوان سوريا في المؤتمر "ملهم الدروبي المكلف بالعلاقات الدولية في الجماعة." وفي تركيا، في عهود حكومات "ذات مرجعية إسلامية" تأسست كل تحالفات أنقرة مع الغرب وإسرائيل، كالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، والاعتراف بإسرائيل، واتفاقات القواعد الأمريكية، وتوقيع الاتفاقية التمهيدية للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في "كنيسة." قامت بذلك حكومات "ذات جذور إسلامية." توقف طعيمة عند كلمة كنيسة؛ لأنهم كانوا قبل ذلك يزايدون "دينيا" على حكومات علمانية تفاوضت للغرض نفسه بالمكان نفسه.
طعيمة، كما انتقد الإخوان أثناء وجودهم في قمة السلطة في مصر، تجاسر على انتقاد سياسات عبدالفتاح السيسي. هناك فرق في النوع، لا الدرجة، بين الانتقادين. في الأول يختلف المؤلف مع أيديولوجيا الإخوان، ويرفض مبدأ الحكم الديني الذي يسيء إلى الدين وإلى الدولة، ولا يتوقع نجاحه؛ لأنه ينتمي إلى التاريخ لا إلى المستقبل. وفي الثاني نقدٌ يستهدف الدفاع عن معنى الدولة الوطنية، ويحذر من الانحراف عن خط ثورة يناير 2011، وخذلان الداعين إلى التغيير، المشتاقين إلى العدل والحرية.
صدر كتاب "انتحار تاريخي: ما تيسّر من حكم السيسي" عام 2015، وحمل غلافه صرخة لا تزال صالحة بعد عشر سنوات على نشره. "افتح.. بنموت" عنوان الصرخة التي تصدق على هذه المرحلة.
يتفق المؤلف مع منتقدين لسياسات السيسي، ممن لا ينتمون إلى فصائل اليمين الديني، على أنه لم ينجح في عملية التحول "من خندق العسكري الذي يواجه عدوا لا تفاهم معه، والأمني الذي يتحين الفرصة للإجهاز على خصمه، إلى ساحة السياسة، حيث الكل وطنيون ومختلفون ومتعايشون، وحيث التنوع، بين الأقصى والأقصى، قانون واجب الاحترام." عدم النجاح يجسّده ثقل يد الشرطة وتجاوزاتها. وكانت تجاوزاتها من أسباب الثورة على نظام حسني مبارك. ويخشى طعيمة أن تؤدي الخشونة إلى انفجار شعبي أكبر مما حدث عام 2011، ونسمع: "يسقط حكم السيسي،" "ونغرق في انتحار تاريخي."
يقول طعيمة: "أنا من عبدة الدولة، وعلى يقين أن المصريين، مع تعاقب معتقداتهم، لهم رب دائم هو الدولة.. المُنظمة الراعية." ويعترف بثقل التركة التي ورثها السيسي، واضطراب المحيط الحيوي. هذا ما ورثه، أيضا، اثنان من بناة مصر هما محمد علي وعبدالناصر. محمد علي حكم بعد فوضى المماليك، ورحيل جيش الاحتلال الفرنسي. الضابط الغريب تسلم مصر على "البلاطة." لم يأتِ من عمق دولاب الدولة، "لكنه أدرك أين يضع مفاتيحه." وتمكن الضباط الشبان، عام 1952، من إنهاء الاحتلال البريطاني، وإنهاء الحكم الملكي، وإعادة الدولة إلى مواطنيها. استطاع عبدالناصر تفجير طاقات الدولة، ونقلها من دولة زراعية لتكون الصناعة في مقدمة خطط التحديث، مع تحقيق ديمقراطية التعليم، وإطلاق أحلام صعود سمح بتكوين طبقي وسطى. وبعد إنهاء حكم الإخوان عام 2013، كان الشعب يأمل أن تتأسس دولة أكثر نضجا وعصرية وديمقراطية من تجربتي محمد علي وعبدالناصر.
ما يميز الظرف التاريخي الذي جاء فيه السيسي، عن تجربة كل من محمد علي وعبدالناصر، أنه ورث مؤسسات قوية، وخبرات متنوعة ومتراكمة، "وطبقة وسطى، لم يحظَ بها لا محمد علي ولا عبدالناصر. ليس مطلوبا منه اختراع العجلة، فقط عليه تشغليها." وعن الثورة تساءل طعيمة: "لم أفهم سرّ كراهية أجهزة ومؤسسات الدولة لثورة أنقذتها من جمال مبارك؟ الرئيس في حوزة هذه الأجهزة، تُديره بدلا من أن يديرها."
أكتفي بهذا القدر. أحتمي بانتهاء المساحة المخصصة للمقال؛ لإعفائي من الاستطراد في تفاصيل أخرى. أعترف بأنني خائف.