حول اتصال الشيخ محمد بن زايد بالأسد

تُذكّر مكالمة الشيخ محمد بن زايد، ولي عهد أبوظبي للرئيس السوري بشار الأسد، بالدور المركزي الذي لعبه المغفور له والده الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، على المستوى العربي، لكي تعود مصر إلى دورها ويُرفع علمها على مبنى جامعة الدول العربية في تونس، مطلع يونيو 1989 بعد عشر سنوات من القطيعة.
فخلال عدة سنوات قبل ذلك الحدث، كان الرجل الحكيم المسكون طوال حياته بالروح الإيجابية الحريصة على جمع الشمل، ومد يد العون للأشقاء، والسخاء في العطاء؛ واعيا أن سياق الأحداث، ينذر بالخسارة وبالمزيد من التداعي، وأن عودة مصر إلى دورها العربي، لها إيجابياتها المؤكدة، وأن استمرار القطيعة يضاعف الخسارة والجفاء، ويُفقد العرب وزن مصر في السياسة الإقليمية والدولية، مع الأخذ في الاعتبار أن القطيعة لم تجلب أي فائدة. بل إن التعاون العربي، تراجع بعد “كامب ديفيد” وازداد ضعفا وتشتتا، بينما موضوع تسوية الصراع العربي الإسرائيلي أصبح خيارا معتمدا. فقد رأى الشيخ زايد أيامها، أن مفاوضات التسوية، في حال جرت دون مصر، لن تكون أفضل في نتائجها.
لم يكن دفع الحكيم العربي، مؤسس دولة الإمارات، في تلك الوجهة، محض موقف عاطفي بالنظر إلى علاقات وطيدة، تأسست بين مصر ودولة الإمارات منذ تأسيسها. فقد كان، بخلاف ذلك كله، موقفا سياسيا بامتياز، ويعكس رؤية بعيدة، لما ليس منه بُد. وهذا ما أثبتته الأيام بعدئذ. فعندما اتجهت الأغلبية العربية، إلى خيار قطع العلاقات بعد “كامب ديفيد” كان الافتراض أن هناك مشروعا عربيا بديلا لإحباط تداعيات الصلح المنفرد، وتلك وجهة لن تكون الإمارات ضدها ولن تتأخر عن دعمها. أما عندما يتبدى أن المشروع المرتجى، لا نَسق له ولا وجود، بل إن الخصومات ظلت على حالها، فالأوجب أن يُستعادَ دور مصر العربي.
لعل اللياقة، وبعض الاعتبارات الجانبية التي يمكن افتراضها؛ هي التي جعلت تعليل الإمارات لاتصال الشيخ محمد بن زايد بالرئيس بشار الأسد، يقتصر على المسألة الإنسانية في ظل هجمة كورونا. فهناك الكثير من المؤشرات والأسباب التي تجعل السياسة والرؤية الاستراتيجية حاضرتين بقوة -وبالمنطق- دونما حاجة للاستغراب.
وهناك عدة عوامل يمكن التطرق إليها بموضوعية. الأولى من حيث شكل الحوادث، أن الأسباب الأولى التي تأسس عليها موقف النظام العربي من النظام السوري، كانت متفرعة عن اختيار الأخير الحل الأمني لانفجار انتفاضة السوريين في مرحلتها الأولى، وهي ذات مضامين اجتماعية – اقتصادية تتعلق بالحريات وبمنهجية الحكم.
غير أن المراحل التالية، ذهبت إلى الأفدح، بعد أن تدفق المسلحون الإرهابيون إلى الأراضي السورية. وهؤلاء، ليست لديهم ثقافة سياسية أو اجتماعية أو ديمقراطية، وإنما لديهم السكين والدكتاتورية الأعتى باسم الدين. أخذ هؤلاء مواقعهم في المدن والقرى وسيطروا على أراض شاسعة، ولم يكن من مصلحة الشعب السوري أن ينتصروا وأن يطيحوا بالنظام. بعدئذ يأتي الحديث عن المضامين.
فقد كان لدى الذين يرسلون تلك الجماعات، عبر الأراضي التركية، مشروعهم السوري المضاد للدولة المدنية، وقد استخدموا تلك الجماعات، لكي تُعينهم على إسقاط الدولة لصالح الولاية. ولن يكون أسهل بعدئذ، من فرزهم ومن ثم تمكين جماعة “الإخوان” من الحُكم على أن تصبح سوريا سنجقا تابعا للحكم الأردوغاني التركي، ومن سيرفض من هذه الجماعات يُباد، لأن المسألة بالنسبة لرجب طيب أردوغان، ليست بالدرجة الأولى والعاشرة، إلا السيطرة على ثروات سوريا الكامنة في باطن الأرض والبحر. فحتى “الإخوان” أنفسهم، في حقيقة موقف أردوغان الذي يستخدمهم، لا يلائمون تركيا ولا يصلحون للسياسة كما يراها هو نفسه، كرجل قومي وكمالي في جوهره، بل طوراني، اختار القشرة الإسلامية، لكي يحقق طموحاته. فتاريخ تركيا منذ تأسيس الجمهورية، يدل بالحدث وبالواقعة، على أن مسألة الهوية الإسلامية تلقى رواجا في الأرياف التركية، التي أصعدت عدنان مندريس في مايو 1950 إلى الحكم، لكي يعطي لناخبيه الحق في العبادة على الطريقة الصوفية. لكن الرجل في السياسة، جعل تركيا أهم قاعدة لحلف شمال الأطلسي، وأكثرها حظوة لدى الولايات المتحدة، وهو الذي أسس فعليا علاقات التعاون العسكري مع إسرائيل الناشئة حديثا. ومعلوم أن مندريس، هو مُلهم أردوغان، وقد أطاحه انقلاب عسكري لأسباب سياسية واجتماعية، تتعلق بالفلاحين ذوي المشاعر الإسلامية الذين اشتد عودهم وبدأوا يتحولون تدريجيا من العبادة الصوفية إلى الإسلام السياسي. ولم يكن حلف شمال الأطلسي نفسه، بعيدا عن الانقلاب.
وصلت سوريا إلى ما هي عليه الآن، بفعل تدخل الروس. وهؤلاء، بخلاف القوة المتفوقة، هناك مصالح اقتصادية لتركيا معهم، مثلما لها مصالح مع إيران التي قاتلت أحبابها المُفترضين في سوريا نفسها. فقد أصبح صعبا عليها الإمساك بدفة أي قارب، ولم تعد تريد إطاحة الأسد، وارتبكت خياراتها، وانكشف بعض الزيف، عندما أرسلا المقاتلين الأصوليين إلى ليبيا، لعلها تكون بديلا. وفي مساحة اللعب المتاحة، وجدت ضالتها في الأكراد، وتذرعت بهم لإدخال قواتها إلى شمال شرق الفرات، ولما أبت الحماقة أن تفارق أهلها، دفعتها اللعبة مع الروس، إلى القبول بتموضع نقاط مراقبة عسكرية تركية، داخل الأراضي السورية، سرعان ما أصبحت في مرمى نيران كل الفوهات على الطرف الآخر.
أردوغان يعرف الآن، أن إدلب لا مستقبل لها بالنسبة له، وبمقدوره أن يحقن دماء المتخلفين الذين يسيطرون عليها، لكنه حتى الآن، يتلكأ، وكأنه يأمل منهم أن يعودوا إلى الأماكن التي نقلوا منها بالحافلات.
واقع الأمر، أن القوات السورية النظامية، تسيطر على معظم الأراضي السورية، والسوريون الذين يعيشون في بلادهم، وإخوتهم الذين خرجوا منها ويأملون في العودة إليها، ينتظرون تسوية تؤمن لهم حياة سياسية دستورية، دونما شرط إطاحة الأسد. فطالما هذه هي الخواتيم، فما هو السبب المتبقي لمقاطعة النظام في سوريا؟ وهل يظن عاقل، أن الاستمرار في المقاطعة، من شأنه إطاحة هذا النظام؟
يقتضي المنطق، القول: من الخطأ أن يكون الموقف حيال سوريا، معطوفا على الموقف من إيران. فالنظام السوري مختلف، وهو في المحصلة علماني، والمأمول أن يكون علمانيا راشدا ومنضبطا لدستور عصري. وعلى هذا المستوى، لن تفيد المقاطعة، مثلما يُفيد التواصل. أما موقف الإمارات، واتصال الشيخ محمد بن زايد بالرئيس الأسد، فهو طبيعي في ظل الاعتبارات السابقة، والجموح الأردوغاني، الذي يختص دولة الإمارات بخصومة أشد ضراوة!