أوهام ودموع

كيف يتناسى المرء – اليوم – أحزانه الكثيرة.
الأحد 2022/04/03
الكتب أكثر جذبا من السلع الطاغية في المكان

لا تخلو سوق شعبية في بلدان العرب والمسلمين من “بسطة” لبيع قديم الكتب مع بعض جديدها. إحدى هذه، في شرقي القاهرة؛ كانت تتهيأ للشهر الكريم قبل نحو أسبوعين، فعرضت السلع الغذائية الرمضانية والعصائر المُصنّعة وأدوات الزينة بالإضاءة من صناعة الصين، ومنها فوانيس وأشكال فوانيس، ومنظومات أسلاك مضيئة، متعددة الألوان. فمثل هذه الأسواق، بطبيعتها، تزداد اشتعالاً في المناسبات. لكن “بسطة” الكتب، المتواجدة في كل سوق، تظل راكدة دائماً، ويحاول أصاحبها تحريكها قليلاً ببعض ملصقات دينية وكتيبات أدعية ومنشورات عن أحكام الصيام.

في حي “النهضة” الشعبي، على مقربة من “مدينة العبور” شمال شرقي القاهرة، ينتظر صاحب “بسطة” الكتب أي زبون. ولفائض وقته، يبادر إلى المساعدة في إفساح مكان لإيقاف سيارة أي قادم إلى السوق، لعله ينظر إلى ما يعرضه. وهذه المرة، فوجئ بأن القادم انجذب إلى الكتب المعروضة أكثر من السلع الطاغية في المكان، ولعله أحس بأن الزبون يرى بضاعته أكثر جدوى من العصائر وزوائد الطعام في شهر الصيام.

التقط الزائر كتابين قديمين طُبعا في الخمسينات والستينات. وعلى الفور استخرج صاحب “البسطة” صندوقاً فيه الكثير من هذا الصنف الذي عفا عليه الزمن مثلما يفترض. كان من بين ما أخرجه عدد سبتمبر 1967 من مجلة “الهلال” الثقافية المصرية، وهو العدد التاسع من السنة الخامسة والسبعين للمجلة. ثم تناول كتاباً أصدرته في مايو 1963 مجلة “الموعد” اللبنانية المهتمة بفنون السينما والطرب، عن الموسيقار فريد الأطرش، لمؤلفه الصحافي المصري فوميل لبيب صديق فريد وأسرته. وقد وضع المؤلف في صدر كتابه عن “دموع فريد الأطرش” رسالة بخط الموسيقار، يقر فيها بأن الصفحات هي ذوب حياته الحقيقية وأنها سجلت تجربته وتجربة أسرته وشقيقته أسمهان، علماً بأن السياق كله، ليس إلا حلقة من حكايات غرام لا تتاح لغير فريد في أي زمان، وقد جرى تغليفها بكلام عن حرمان تلو الآخر، ومفارقات تلو الأخرى، وهي كلها، في واقع الأمر، فيضان من مباذل بلا قاع، خاض فيها فريد وشقيقته وغيرهما ممن يسمون النجوم!

مرت ستون سنة على كتاب “دموع فريد الأطرش” الأكثر اصفراراً، لكن عدد مجلة “الهلال” مرت عليه خمس وخمسون سنة، والمتصفح لهذا الأخير، يرى حجم المكابرة والأوهام “الاشتراكية” التي عاشها المثقفون العرب بعد صدمة 1967 مباشرة.

بدأت المجلة بمقالة للمؤرخ الاجتماعي المصري د. محمد أنيس بعنوان “حول قضية التغير الثقافي في مجتمعات التحول الاشتراكي”، تلتها مباشرة مقالة أخرى طويلة، تشبه سابقتها في العنوان والموضوع، بقلم كاتب جزائري يُدعى محمد سعيدي (لا يعترف به محرك البحث “غوغل”).

سوق “النهضة” الشعبي فيه مقهى عشوائي يتيح لزبون “بسطة” الكتب القديمة أن يجلس ويتأمل الفارق بين مشهد مكابدات الفقراء في السوق، وأمواج السلع التي تقذف بها الرأسمالية، وجنة الاشتراكية التي كان يحلم بها اليساريون. فعلى مقربة من المقهى و”البسطة” هناك موضع “بسطة” أخرى عجيبة، قوامها مفرمة لحم أو مفرمة كل لحم وكل بقوليات وخضار، تفرم لربات البيوت ما يردن فرمه من مواد الطهي، بسعر جنيه للكيلو. أما “دموع فريد الأطرش” التي كانت في زمانها مدرارة لدموع متعاطفين، فهي اليوم أشبه بمفارقة مستفزة، إذ كيف يتناسى المرء – اليوم – أحزانه الكثيرة، لكي يرثي لحال حبيب خسر حبيبته بسبب زواجها من ملك البلاد الذي انتزعها من ثالث كان خطيبها، علماً بأن للمطرب الخاسر كثيرات سواها!

20