حكم التونسيين على الإسلاميين جاهز.. مع وقف التنفيذ

حركة النهضة الإسلامية لم تنجح في إقناع خصومها ببرنامج عمل حكومي يجعلها تشكل حكومتها باعتبارها الحزب الفائز بالانتخابات ما سرّع بإسقاط حكومة الجملي.
الأحد 2020/02/23
الإسلاميون يتجملون لكنهم لا يتغيرون

في كتابه "السيطرة على الإعلام" يقول الفيلسوف الأميركي وأستاذ اللسانيات نعوم تشومسكي إن "الهدف الأساسي من الدعاية الجيدة عمل شعار ما لن يكون بإمكان أحد الوقوف ضده وسيصطف خلفه الجميع".

يبدو أن حركة النهضة الإسلامية في تونس أحسنت ترجمة هذه القولة للفيلسوف الأميركي على أرض الواقع منذ قيام ثورة 2011 لتعزيز قاعدتها الشعبية حيث وظّفت منذ عودة قياداتها من المنافي خطابا دينيا استهوى غالبية الناخبين في مجتمع محافظ. وجعل هذا الخطاب الحركة تتبوأ في 2011 المرتبة الأولى بـ89 مقعدا (من مجموع 217) بعد تصويت مليون وخمسمئة ألف تونسي لها في انتخابات المجلس التأسيسي.

ولكن سرعان ما أخذت شعبية الحركة بالتهاوي في انتخابات 2014 ثم في 2019 بسبب نكث الحركة لوعودها الانتخابية وتخلّيها عن شعارات نادت بها بالأمس ومكنتها من خزان انتخابي جعل موقع الإسلاميين في المشهد السياسي التونسي ثابتا. ومن الواضح أن ازدواجية الخطاب الذي اعتمدته الحركة الإسلامية بسبب ما تقول عنه قياداتها إكراهات الواقع قد عجلت ببداية تآكل خزان النهضة الانتخابي.

فعلى سبيل المثال وغير بعيد عن الاستحقاق الانتخابي التشريعي الأخير الذي أجرته تونس فإن حركة النهضة اعتمدت على خطاب استهدف حزب “قلب تونس” الذي يتزعمه قطب الإعلام ورجل الأعمال نبيل القروي الذي اقترن اسمه آنذاك (في أكتوبر) بقضايا فساد. واستفاض الإسلاميون وحتى زعيمهم راشد الغنوشي في توجيه اتهامات لنبيل القروي وحزبه بالتورط في الفساد.

ولا شك أن هذا الخطاب زاد من نقمة التونسيين على حزب القروي ورجّح كفة حركة النهضة في الانتخابات والتي نجحت فيها الأخيرة في حصد أصوات غالبية الناخبين لصالحها.

إلى حد الآن يبدو الأمر منطقيا حيث يسود نوع من التشنج وحتى تبادل الاتهامات خلال الحملات الانتخابية بين الفاعلين السياسيين، لكن عنصر المفاجأة أبرزته الحركة الإسلامية بعد الاستحقاق وخلال مشاورات تشكيل حكومة إلياس الفخفاخ المكلف من قبل رئيس الجمهورية قيس سعيّد.

فحركة النهضة التي تمتلك الكتلة الأولى برلمانيا استشعرت خطر رغبة الرئيس التونسي الجامحة في إرساء نظام رئاسي عوض النظام شبه البرلماني المعمول به حاليا فسعت بكل ما أوتيت من قوة لتعطيل رئيس الحكومة المكلف.

وأسعفت النهضة أخطاء الفخفاخ بإعلانه استبعاد “قلب تونس” (38 نائبا) من المشاورات الحكومية حيث أصبح الإسلاميون ينادون بحكومة وحدة وطنية وعدم إقصاء حزب القروي.

وبعد أن شوهوه لأشهر خرجت حركة النهضة لتعلن عن رفضها إقصاء “قلب تونس” من الحكم ضاربة عرض الحائط شعارات كانت قد رفعتها قبل الانتخابات من قبيل “مكافحة الفساد أولوية الأولويات”.

وجاءت تحركات الإسلاميين في وقت كانوا قد فشلوا فيه في تمرير حكومتهم أمام البرلمان في ضربة قاصمة لحركة النهضة وجعلت كل المتابعين يتكهنون بأن الإسلاميين باتوا قاب قوسين أو أدنى من خسارة نفوذهم.

شعبية تتهاوى
شعبية تتهاوى

هذه التكهنات نزلت كالصاعقة على النهضة التي توجّست من “عزلها سياسيا” وخاصة إمكانية خسارة بعض الوزارات التي لديها حساسيتها على غرار الداخلية والعدل وغيرهما.

وهذا التوجس يعود إلى بعض القضايا التي تُلاحق الإسلاميين على غرار “الجهاز السري لحركة النهضة” وهو جهاز مواز للأمن التونسي تُتهم الحركة الإسلامية بامتلاكه.

بالإضافة إلى أن الحركة الإسلامية تتخوف من خسارة وزارة تكنولوجيا الاتصال التي كان يقودها أنور معروف وهو قيادي إسلامي، وتُتهم الحركة كذلك باستغلال هذه الوزارة التي قادتها منذ بداية الثورة تقريبا للوصول إلى بيانات التونسيين.

كل هذه المعطيات أرغمت حركة النهضة على فتح جبهات عديدة ضد خصوم كثر أوّلهم الفخفاخ ومن كلّفه، ومن ثم الأحزاب المكونة للحزام السياسي للرجل (حركة الشعب والتيار الديمقراطي وحركة تحيا تونس).

ومن أجل درء الأخطار المحدقة بمكانتها على الساحة السياسية حاولت حركة النهضة وأذرعها على غرار ائتلاف الكرامة الشعبوي العمل على سحب البساط من تحت الفخفاخ من خلال التلويح بسحب الثقة من رئيس حكومة تصريف الأعمال يوسف الشاهد وهو أمر أغضب سعيّد وجعل تونس تدخل متاهات التأويلات الدستورية.

 وجعلت هذه المحاولة الإسلاميين ليس في مرمى نيران خصومهم فحسب بل حتى الرئيس وغالبية التونسيين الرافضة للدخول في أزمة دستورية وسياسية قد تفتح الباب على مصراعيه أمام أزمة أخرى أعمق وهي أزمة شرعية.

في المحصلة لم تنجح النهضة في إقناع خصومها ببرنامج عمل حكومي يجعلها تشكل حكومتها باعتبارها الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية وهو ما سرّع بإسقاط حكومة الحبيب الجملي الذي اقترحته الحركة لمنصب رئاسة الحكومة في مشهد أكد أن الحركة بدأت تترنح في مشهد سياسي غير ثابت.

وبعد سقوط حكومتها أطلقت الحركة الإسلامية مسلسل مناورات كشف حقيقة الحركة المدافعة عن مصالحها ونفوذها قبل كل شيء وهو ما يؤكد أن الإسلاميين يتجملون لكنهم لا يتغيرون حيث لا يزال توجّسهم من محاسبة الناخبين التونسيين لهم ومن ثمة عزلهم سياسيا واتخاذ إجراءات قانونية في حقهم.

لقد أصدر التونسيون حكمهم على النهضة وأرجأوا تنفيذه أو أوقفوا ذلك حيث عاقبوا الحركة الإسلامية في انتخابات 2014 التشريعية بمنحهم 69 مقعدا من مجموع الـ217 بعد أن صوّت لهم 900 ألف ناخب أي بخسارة تقدر ب 600 ألف ناخب مقارنة بـ2011.

وفي الـ2019 منح التونسيون للنهضة الإسلامية 54 مقعدا بتفويض من 500 ألف ناخب أي بتراجع يقدر بـ400 ألف ناخب مقارنة بـ2014 وبمليون ناخب مقارنة بـ2011.

النهضة فتحت جبهات عديدة ضد خصوم كثر
النهضة فتحت جبهات عديدة ضد خصوم كثر

وبالرغم من أن التونسيين عاقبوا تقريبا غالبية مكونات المشهد السياسي الذي تشكل بعد ثورة 2011 إلا أن حركة النهضة نالت نصيب الأسد من صفعات الناخبين نظرا لازدواجية الخطاب الذي تتّبعه الحركة.

وكما تقول الحكمة “إذا كان بيتك من زجاج.. فلا ترم بيوت الناس بالحجارة” فالإسلاميون لا يمثلون سوى جزء من مشهد سياسي أرادوا التحكم فيه بإشهار سلاح النجاسة والفساد لضرب شعبية خصومهم، وبالتالي يصبحون هم رموزا للنقاء ويستبعدون بذلك إمكانية محاسبتهم، ومن يدري إذا كانوا هم بالفعل صالحين؟

وبالإضافة إلى ذلك ينتظر التونسيون حلولا لمشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية وينشدون واقعا أفضل للحريات، فهم لا ينتظرون توريط بلادهم في وحول معارك أخرى لن تعود سوى بالسوء على تونس على غرار الحربين الليبية أو السورية حيث يرتهن الإسلاميون لأطراف خارجية في هذه البلدان بالإضافة إلى تركيا.

وبالرغم من أنها تدّعي أنها تغيرت وفصلت بين ما هو دعوي وما هو سياسي وأنها أصبحت حركة مدنية فإن حركة النهضة كغيرها من الحركات الإسلامية تراوغ قدر الإمكان من أجل الوصول إلى الحكم وفرض مشاريعها الأيديولوجية وسيطرتها على كل مفاصل الدولة وسطوتها على مؤسساتها.

ومن المؤكد أن نجاحها في تحصيل مكاسب جديدة من خلال توسيع تمثيليتها في حكومة الفخفاخ لا يُخفي تعمق الفجوة بين الحركة الإسلامية وأنصارها من ناحية وكذلك مع الرئيس الضامن لاستمرارية الدولة ومؤسساتها وبقية مكونات المشهد السياسي في تونس.

6