التكنولوجيا تغيّر أساليب التنافس الرياضي وقواعده

قلب التطور التكنولوجي عالم الرياضة رأسا على عقب بابتكار أدوات وتقنيات حديثة وتسويقها لممارسة التمارين أو لإدارة المنافسات من أجل تعزيز كفاءة الرياضيين وشد اهتمام الجمهور وزيادة نسب مشاهدة المباريات والمنافسات الرياضية. وقسمت التحولات التكنولوجية الآراء بين مشيد بالعلاقة بين الرياضة والذكاء الاصطناعي، ومتخوف من إفراغ الرياضة من قيمها الفعلية، وإفقادها البعد الإنساني بعد تحكم الآلة فيها.
القاهرة - أصبح تنديد اللاعبين وجماهير مباريات كرة القدم التي تدار بالاستعانة بتقنيّة التحكيم بالفيديو (الفار) أمرا شائعا منذ تم اعتماد هذه التكنولوجيا الحديثة. وشهدت منافسات محلية وإقليمية لفرق عربية وأخرى عالمية وتصفيات كأس العالم العديد من الأحداث والمناسبات التي كان فيها “الفار” هو المتهم الأول بإفساد اللعبة والانحياز لصالح فريق على حساب آخر بالنسبة للبعض أو كان منصفا وأعطى كل صاحب حق حقه كما يرى المدافعون على هذه التقنية.
واحتج، في وقت سابق، أحباء أحد فرق كرة القدم الأرجنتينية على استعمال تقنية “الفار” (الفيديو المساعد) في هذه الرياضة بعد نتيجة مباراة لعبها فريقهم وقرر خلالها الحكم احتساب ضربة جزاء لصالح الفريق الخصم إثر الاعتماد على هذه التقنية. وخرج أحباء النادي المحلي في تظاهرة احتجاجية تندد باستخدام التكنولوجيا في رياضة كرة القدم.
واعتبر الجمهور الرياضي الغاضب أن اقتحام أدوات التكنولوجيا بكافة أنواعها مجال الرياضة أفسد متعة وجمال المنافسة.
ومنذ أن بدأ الاعتماد على تقنيات الذكاء الاصطناعي في المنافسات الرياضية في السنوات الأخيرة، كان مصحوبا بالنقاش والرفض.
أضحت الميزات التقنية الحديثة، التي تشابكت مع الرياضة في التدريب والتحكيم ومتابعة قدرات اللاعبين ونقل الحدث الرياضي، مسألة مثيرة للجدل المتواصل حيث قسمت جمهور الرياضات بمختلف أنواعها بين مؤيد لاعتماد ما توفره التكنولوجيا من أدوات وبين رافض يرى أن الأمر أخل بقواعد اللعب والتنافس وأفسد متعة المشاهدة وفرض قواعد جديدة لم تكن في الحسبان.
لا يقتصر الأمر على رياضة كرة القدم، صاحبة النصيب الأكبر من التحولات التكنولوجية، فقد دار سجال كبير داخل أروقة سباق السيارات الشهير “فورميلا وان”، بعد تسبب تطور المحركات بنظام “هايبرد” (بنظام هجين)، الجامع بين الطاقة الكهربائية والوقود، في تراجع منسوب المتعة والحماس اللذين يمتاز بهما هذا السباق.
مستقبل دمج الرياضة والتكنولوجيا بمختلف جوانبها يبقى مسألة مثيرة وشديدة التعقيد لاسيما مع تعدد مجالات التطور بين الأدوات واللاعبين والقوانين
ويقول جورج إدرين، السائق البريطاني السابق في سباقات السيارات، إن “شركة مرسيدس احتكرت المراكز الأولى لقرابة الخمسة أعوام الأخيرة، وأضحى أقرب منافسيها بعيدا جدا، والسبب التكنولوجيا”.
ويتابع “التكنولوجيا غيرت مفهوم السيارة، وحولت الأمر من مهارة السائق وقدرات الحلبة، إلى منافسة مادية، من يمتلك ميزانية أكبر يفوز بكل شيء”.
ويسلط الضوء دائما على التحكيم باعتباره ركنا أساسيا في أي رياضة. ويهاجم البعض التكنولوجيا التي أخذت على عاتقها مسؤولية اتخاذ الكثير من القرارات وهمشت دور الحكم البشري في إدارة الملعب، فأصبحت التقنيات والشاشات الصغيرة والعملاقة حكاما حاسمين بعد أن زرعت الشرائح الذكية داخل الكرات والمضارب، كما تم استحداث نظم المراجعة التلفزيونية وأضيفت خاصية التحدث عبر الهاتف بين حكم وآخر.
واجهت رياضتا التنس والغولف على سبيل المثال أزمة كبيرة منذ عام 2010، بعد أن أصبح اللاعب يمتلك حق تحدي قرار الحكم من خلال الاستعانة بالتصوير الذكي والقياسات الإلكترونية الدقيقة للتأكد من صحة الحالة التحكيمية مثل اجتياز الكرة خط الملعب أو اجتياز الكرة الحفرة أو خط دخول المرمى.
واعتبر خبراء أن المسألة تمثل إهانة للحكم نفسه، وتدفع اللاعبين إلى تحدي الحكام باستمرار والتعامل معهم بندية، في حين أنهم مطالبون باحترام قرارات طاقم التحكيم حتى وإن كانت لا تعجبهم (اللاعبين).
وكشفت لجنة الرياضة الأخلاقية التابعة لاتحاد كرة القدم الأميركية، في تقرير أصدرته في عام 2016، أن حالات الاعتراض على التحكيم تضاعفت بين عامي 2012 و2016. وأرجع التقرير السبب إلى دخول التحكيم الإلكتروني لعبة كرة القدم وكشفه الأخطاء البشرية للحكم ما أثر على ثقته بنفسه حيث أصبح مرغما على الرجوع للحكم الإلكتروني المساعد في كل مخالفة، وإلا انصب عليه غضب اللاعبين والجمهور.
مميزات خارقة
يروج المعادون للتكنولوجيا بشكل عام أن أضرارها الفنية والاجتماعية متعددة وخطيرة. لكن الذكاء الاصطناعي أعطى الرياضة شكلا جديدا ومنح الرياضيين ميزات خارقة.
ولعل ما أضفته التكنولوجيا على اللاعبين يمكن تلمسه في تطور اللعبة وجعلها أكثر متعة. وتمثل “الصدرية الذكية” و”الساعات الذكية” إضافة إلى أنظمة التتبع “جي.بي.أس”، أدوات ضخت إمكانات مذهلة لفهم طبيعة كل لاعب وقياس قوته ومؤهلاته البدنية والصحية والإسهام في تحسين قدرات اللاعبين بصورة غير مسبوقة ليصبحوا أسرع وأكثر مهارة وقوة.
وتقوم كلّ من الساعة والصدرية، واسعتا الاستخدام حاليا، بقياس كل البيانات التي تتعلق باللاعب بداية من نبضات القلب ومستوى السكر في الدم أثناء التمرين، إلى جانب تحديد أفضل أوقات التدريب والأغذية المناسبة لطبيعة الجسم واختيار الوقت المثالي للجري أو السباحة.
ونجح التطور التكنولوجي عموما في رفع إيقاع المنافسات الرياضية -لاسيما الأولمبية- مثل ألعاب القوى. وتكشف أرقام اللاعبين القياسية عموما عن مدى نجاح التواصل التكنولوجي في رفع كفاءة البشر عموما والرياضيين خصوصا. إذ تراوحت الزيادة أو التقدم في أرقام اللاعبين الفنية ما بين 20 إلى 30 في المئة في آخر عشرة أعوام، وهي نسب زيادة ضخمة مقارنة بالتطور المعتاد في كل رياضة خلال القرن العشرين لاسيما أن التقدم الطبيعي لكسر الأرقام القياسية لم يكن يجتاز حاجز العشرة في المئة.
ويرى أستاذ العلاج الطبيعي بكلية تربية رياضية، محمد رجب، أن دخول التكنولوجيا عالم الرياضة عاد بالنفع على كل من اللاعبين والجمهور. ويعتقد رجب أن الجماهير أصبحت محظوظة لأنها باتت تشاهد مباريات أكثر متعة وتنافسية بعد أن أصبحت إمكانات الرياضيين مثيرة وخارقة أحيانا.
ويقول رجب، في تصريحات لـ”العرب”، إنه “لولا الاهتمام الناجم عن التكنولوجيا لما كنا لنرى لاعب كرة قدم مثل الأرجنتيني ليونيل ميسي يصنع أمورا فريدة لم نرها من قبل مثلما يحدث الآن”. ويوضح أن أهم مميزات التكنولوجيا تتمثل في تقليلها من تعرض اللاعبين للإصابات، وأسهمت في الحفاظ على صحة اللاعب واستمراره في الملاعب لمدد أطول.
وضخ الذكاء الاصطناعي مؤخرا أجهزة مثيرة، أشهرها جهاز “فيري”، تتنبأ بالإصابات المتوقعة والمزمنة للاعبين عن طريق نوع الرياضة وأشهر الإصابات المتكررة فيها بالإضافة إلى قياس إمكانات كل لاعب وتاريخه المرضي وقوة العضلات ونقص الفيتامينات في الدم. وبناء على تقييم شامل ومتطور؛ يقوم الجهاز بالتحذير من إصابات بعينها، والتوصية بتقوية بعض العضلات.
جمال المشاهدة
ولا يمكن تجاهل التطور المبهر لتقنيات نقل الفعاليات الرياضية، بعد أن أسهمت القاطرة التكنولوجية في تصميم منظومة فنية عالية لتصوير وإخراج المباريات والتظاهرات الرياضية بصورة أقرب للأفلام السينمائية.
وتمت إضافة خاصيات وميزات أخرى مثل استخدام الرسوم المتحركة والتصوير من الزوايا العالية باستخدام الكاميرا العنكبوتية والطائرة والدرون، إضافة إلى العدسات الاستشعارية التي ترافق لاعبين بعينهم، وهو ما ساهم في تقديم عروض مميزة ومفعمة بالإثارة لشد انتباه المشاهد وإثارة إعجابه.
ويقول خبراء إن تطور تقنيات التصوير والبرامج الذكية، كالرسم البياني وخطوط تتبع حركة كل لاعب، حوّل الرياضة إلى بيانات لافتة وزاد من أهمية المراكز التحليلية بعد كل مباراة، ليجذب شرائح أخرى من الجماهير المحبة لفهم أعمق للرياضة.
وتعتبر السباحة أكثر الرياضات استفادة من دخول التكنولوجيا التحليلية والرقمية، لاسيما أنها رفعت سقف المنافسة والمتابعة الجماهيرية. وفي عام 2009، أسهم دخول نظام خط “الرقم القياسي الوهمي” في سباق المسافات القصيرة في رياضة السباحة في رفع المتابعة للسباقات بنسبة 14 في المئة.
وتعمل خاصية الخطوط الوهمية على رسم خط يمثل آخر رقم قياسي تحقق في السباق. ويرافق الخط الوهمي سباق السباحين، لتصبح أمام المشاهد متعتان؛ الأولى مشاهدة سباق بين ثمانية سباحين أقوياء، والثانية سباق من نوع آخر يتنافس فيه كل لاعب مع تحطيم الرقم القياسي.
ويقول ليني كليزربرغ، السباح الأميركي الأولمبي السابق، إن دخول الخواص التكنولوجية عالم السباحة نقلها من رياضة كانت مقتصرة على محبي السباحة فقط إلى رياضة جماهيرية يحبها الجميع ويتابعها عن كثب.
ولم تقتصر التحولات التكنولوجية على جانب الفرجة أو إدارة اللاعبين أو دعم الرياضة أو تسيير المنافسة وتحليلها فقط، ولكنها دخلت بقوة عالم صناعة الأدوات الرياضية بمختلف أنواعها.
وباتت المنافسة الحالية بين أكبر شركات الملابس الرياضية في العالم، وعلى رأسها “نايك” و”أديداس”، مقتصرة على كيفية إضفاء لمسات تكنولوجية على منتجاتهم. ودخل الذكاء الاصطناعي مجال صناعة الأحذية وخامات الملابس الرياضية وأسهم في تقليل المعوقات أمام اللاعبين أثناء التدريبات أو المنافسات.
وابتكر باحثون ملابس مدمجة مع خاصية “النانو تكنولوجي” التي تسهم في الحفاظ على الملابس من الأوساخ وامتصاص العرق ومياه الأمطار أثناء ممارسة الرياضة.
وأضحت الأحذية أيضا أكثر مرونة وأخف وزنا بسبب تركيبتها التي تحتوي مكونات كيميائية تساعد على سهولة الحركة وإراحة القدم أثناء الاستخدام الطويل.
فرصة ثمينة
قدمت التكنولوجيا الرياضية الفرصة لبعض الشركات التي كادت تندثر للعودة مرة أخرى إلى ساحة التنافس التجاري، مثل شركة “أكس آر” الألمانية التي أدخلت خامات “الكاربون” في صناعة المضارب والأدوات الرياضية لتصبح أقل وزنا وأكثر قوة وصلابة.
ومع زيادة أرباح تلك الشركات التي استعانت بالتكنولوجيا كسبيل للمنافسة، تحول هذا المجال إلى ساحة تنافس شرس من أجل تطوير الأدوات الرياضية لجذب المزيد من الزبائن. وافتتحت شركات رياضية كبرى مثل “أندر أرمر” أقساما مختصة بالتطوير التكنولوجي الرياضي، وتعاونت مع كبرى الجامعات لتقديم أبحاث في مجال الرياضة الرقمية المستحدثة.
ولم تتوقف عائدات التكنولوجيا عن الشركات الرياضية، ولكنها أعادت الزخم أيضا لرياضات سابقة كان الاهتمام بها قد تراجع في العقدين الأخيرين بسبب ضعف التنافس فيها وقلة الإثارة الرياضية.
وأحيت التكنولوجيا رياضة التسابق بالدراجات البخارية، من جديد بعد أن تم رفع كفاءة هذا النوع من الدراجات وتعزيز خوذ المتسابقين بتكنولوجيا الكاميرا الذكية بصورة تسمح للمتابع بمشاهدة الحدث كجزء من السباق أو كأحد المتسابقين. وسمحت الميزات التقنية الجديدة بزيادة الإقبال على التظاهرات الرياضية لسباق الدراجات البخارية بنسبة 25 في المئة، كما أنها شجعت كبرى الشركات على الاستثمار في هذه الرياضة لرفع مستوى اللعبة ومنافساتها بشكل أكبر.
ويبقى مستقبل دمج الرياضة والتكنولوجيا بمختلف جوانبها مسألة مثيرة وشديدة التعقيد لاسيما مع تعدد مجالات التطور بين الأدوات واللاعبين والقوانين. لكن الأكثر إثارة حاليا هو جهود العلماء لتطوير القدرات العقلية والحضور الذهني للرياضيين.
ومؤخرا، تم وبشكل تجريبي إطلاق جهاز “هالو سبورت” الذي يوضع على الرأس ويشبه السماعات ويعمل على إرسال نبضات كهربائية لتحسين كفاءة المخ مع أداء الرياضة. وقد ظهرت نتائج مذهلة حيث أن الكفاءة تكون أعلى بنسبة 40 في المئة عند استخدام الجهاز.
ويعمل جهاز “هالو سبورت” على تحفيز مسارات الدماغ عبر إشارات خاصة قبل التمرين الرياضي بعشرين دقيقة. وتسمح تلك العملية الكهربائية البسيطة في زيادة القدرات البدنية ونسب التركيز والسرعة وتقليل الإجهاد.
وتعطي التقنية التي يشتغل بها جهاز “هالو سبورت” الحالي لمحة عن الأفق الذي يتجه إليه العالم في المستقبل لتطوير الرياضة. وتبدو المخاوف الآن متعلقة باستخدام الشرائح الذكية وزرعها داخل أجسام الرياضيين، وربما تصبح مع الوقت أشبه بتناول المنشطات.
ولا يمكن تفسير عواقب تطور استخدام الشريحة الذكية، ولكن بالتأكيد ستكون تلك العملية المستقبلية نقطة مفصلية في مجال الرياضة، وانقلابا حقيقيا في عالم التنافس والممارسة.