معركة للدفاع عن "الذوق العام" أم استفزاز للشباب

منع التعامل مع مطربي المهرجانات يثير سخط الشباب في مصر ويزيد تعلقهم بأغانيهم.
الأحد 2020/03/08
أصوات ممنوعة من الدولة مرغوبة من الشباب

كشف قرار نقيب الموسيقيين المصريين، المطرب هاني شاكر، منع التعامل مع المغنين الشعبيين أو ما يعرف بمطربي المهرجانات، عن غياب الآليات الرسمية لفهم طبيعة الفنون الجديدة وأدواتها. كما أثار حفيظة قطاع كبير من الشباب المصريين، معتبرين القرار إعادة إنتاج لنفس وسائل المنع التي تكررت عشرات المرات وحققت نتائج عكسية في أوساطهم.

قبل نحو 15عاما، ظهر ثلاثة شبان في مدينة الإسكندرية أطلقوا على أنفسهم فرقة “الدخلاوية”، وقاموا بتأليف مجموعات من أغان غير معتادة، وأطلقوا عليها اسم “المهرجان” تمزج بين موسيقى الراب والتكنو، وهي موسيقى إلكترو – شعبي بصبغة محلية.

وحققت الفرقة نجاحا غير متوقع، وسرعان ما ظهرت عشرات الفرق. وفي غضون سنوات تحولت موسيقى المهرجانات إلى الموسيقى الأكثر شعبية واستماعا على مستوى مصر ودول عربية.

وعلى مدار عقد من الزمان، انطلقت أجراس إنذار متعددة تحذر من ذلك “الفن الرديء”. وجاءت التحذيرات تارة من الحكومة وأخرى من جهات فنية وثقافية، آخرها إعلان نقابة المهن الموسيقية وقف التعامل مع أيّ جهة تتعامل مع مطربي المهرجانات. وهو القرار الذي ترك الكثير من الجدل وأثار سجالات لدى فئات عديدة من الشباب الذين يستهويهم هذا النمط من الموسيقى.

وشكلت الأغلبية من الشباب رفضا للقرار. وتحولت المسألة من السخرية من حالة المنع إلى “ترند” على المنصات المختلفة. وندد كثيرون بالقرار السلبي باعتباره غير مجد، وأقرب إلى رغبة سلطوية أكثر من أنه يهدف إلى حماية الذوق العام. وخرج البعض منتقما من قرار الفنان هاني شاكر، بالسخرية المباشرة من كلمات وألحان أغانيه.

ولا تعد ظاهرة تقديم فنون بسيطة وليدة المجتمع المصري وحده، فقد تكررت في الكثير من الدول الغربية، ومع بداية الألفية الجديدة ارتفعت أسهم أغاني “الميتيل الأسود”، وأصبحت حديث الشباب، رغم حالة السخط التي صاحبتها وقتها، أما الآن فباتت أغاني “الراب” و”كونتري” أكثر شعبية منها، ولم يعد أحد يتذكر تلك الفترة.

منع لا احتواء

على خلفية الجدل الذي أُثير بسبب أغنية "بنت الجيران" لحسن شاكوش وعمر كمال أصدر نقيب الموسيقيين هاني شاكر قرارا بإبعاد مطربي المهرجانات عن الساحة الغنائية
بعد الجدل الذي أُثير بسبب أغنية "بنت الجيران" لحسن شاكوش وعمر كمال أصدر نقيب الموسيقيين هاني شاكر قرارا بإبعاد مطربي المهرجانات عن الساحة الغنائية

تتبنى الحكومة في مصر مبدأ “المنع خير وسيلة للدفاع”. وعلى الرغم من تغير القضايا المثيرة التي تتعلق بالشباب، بقي الحل الأسهل هو التعلل بحماية الأجيال الجديدة من الانهيار الأخلاقي التي تتسبب فيه بعض كلمات الأغاني الخادشة للحياء.

ولا يعتبر الجدل الذي رافق الأغنية الشعبية وليد اللحظة بل تبادلت الأجيال وعلى مدار أكثر من قرن من الزمان الاتهامات بكونها تحمل مسؤولية انهيار الفن. فظهور عبدالحليم حافظ ومحمد رشدي قبل عقود طويلة، اعتبره كبار النقاد مؤشرا على انهيار فن محمد عبدالوهاب وأم كلثوم.

وحين اخترقت أغاني المطرب الشعبي محمد عدوية وحسن الأسمر وحكيم، مسامع الملايين خرج أنصار عبدالحليم ورشدي يناشدون المسؤولين إنقاذ عالم الطرب من الانهيار، ويختار المسؤولون في كل مرة أن يكون منع الفن الصاعد ومحاصرته هو الحل. وفي كل مرة أيضا كان ينتهي الأمر بفشل ذريع والمزيد من الشعبية لصالح ذلك الفن الجديد، وارتفاع تعلق شريحة كبيرة من الشباب به.

ويستند هاني شاكر في قراره، على فكرة حماية الشباب من الكلمات الفاسدة والمحرضة، ومنع التشجيع على تناول المخدرات أو معاكسة المرأة أو تمجيد البلطجة والعنف، مصرا على رفض وصف تلك الأغاني بالفن الذي يمتلك جمهورا واسعا لدى الشباب.

وشمل قرار المنع الممثل والمطرب المصري محمد رمضان حيث أصدر نقيب الموسيقيين هاني شاكر تنبيها إلى كل المنشآت السياحية والبواخر النيلية والملاهي الليلية، بعدم التعامل مع مطربي المهرجانات.

جزء من حياة الشباب

برر نقيب الموسيقيين قراره بالحالة السيئة التي باتت تهدد الفن والثقافة العامة بسبب ما يسمى بأغاني المهرجانات، معتبرا إياها نوعا من أنواع موسيقى وإيقاعات الزار وكلمات موحية ترسخ لعادات وإيحاءات غير أخلاقية في الكثير منها، قد أفرزت ما يسمى بـ”مستمعي الغريزة”.

ورغم أن رحلة صعود هاني شاكر الغنائية صاحبها الكثير من اللغط والهجوم، وفشل في فهم عقلية الشباب وطباعهم، واستبدل الاحتواء المطلوب للأجيال الجديدة بسياسة الوصاية التي لا تزيد الشباب إلا عنادا، ولا تضيف سوى المزيد من الفجوة بينهم وبين المجتمع.

وتعتبر المهرجانات جزءا من حياة الشاب المصري، حيث يلتقي معها بداية من ركوب وسائل المواصلات مثل الميكروباص أو التوك توك أو التاكسي، وقد اعتلت موسيقى المهرجانات المراتب الأولى الأكثر استماعا على منصات التواصل، كما سيطرت على الحفلات والسهرات التي يرتادها الشباب.

“وبمنطقة “أولاد علام” الشعبية القريبة من حي الدقي الراقي تتردد كلمات أغنية “رب الكون ميزنا بميزة.. الرجولة والنفس عزيزة”، كلمات قليلة يعاد تكرارها عدة مرات، قادمة من مذياع صغير داخل “توك توك” يقف في حارة لا تكفي لمرور شخص وسيارة معا، أين يقف أيضا أحمد سلامة، الشاب العشريني العاطل، ممتعضا بعد أن اخترقت خلوته الغنائية، بسؤال عن سبب حبه لتلك الأغنية، فأجاب محاولا البحث عن صيغة وافية، “الأغاني تفرحنا وتسعد الناس.. فلماذا لا نحبها”.

وأضاف لـ“العرب”، “أعمل سائقا لتوك توك منذ خمس سنوات، ويطلب مني الزبائن من الشباب سماع أغاني المهرجان الشعبية، لأنها تخفف عنهم ضغوط الحياة اليومية، حيث لا يحتاجون إلى التفكير في الكلمات، كل ما عليهم فعله هو ترك آذانهم تذوب مع كلمات ولحن الأغنية المبهج.”

يفضل سلامة وغيره من الشباب المحبين للمهرجانات، أغاني مثل “رب الكون” للمطرب حمو بيكا، لأنها تتحدث بلغتهم البسيطة، وتحمل تقاليد الشارع والعديد من الحكم والمواعظ الحياتية في صورة أغنية.

وتعتمد موسيقى المهرجانات على نوع من موسيقى التكنو عن طريق برامج إلكترونية مع إدخال صوت المغني. أما الكلمات فمعظمها مستمد من موضوعات مرتبطة بالمناطق الشعبية في مصر، مثل المواويل الشهيرة التي يطرب لها الكبار والصغار.

ويتفق محمود مرسي، شاب في العقد الثلاثيني ويعمل في بنك أجنبي، ومولع بالاستماع لمهرجانات “أوكا وأورتيجا” الشهيرة، مع أحمد سلامة في أن تلك الأغاني الشعبية لا تحمل معنى ولا تقدم فنا حقيقيا، لكنها تعبر عنهم جميعا.

وأكد أنه حمّل على هاتفه النقال أكثر من 200 أغنية لمطربي مهرجانات، أشهرهم علي سمارة وأحمد مدحت وكزبرة ونور توت، قائلا “الاستماع للأغنية الشعبية لأول مرة قد يثير اشمئزازك أو على الأقل استغرابك من الكلمات والألحان، لكن بعد الاستماع إليها مرة أخرى تجد نفسك تتمايل معها بل لا تستطيع كلماتها أن تفارق ذاكرتك”.

وتابع “المهرجانات تمتلك سحرا حقيقيا يجعل جميع الشباب بمختلف فئاتهم يحبونها ويرفضون منعها، والسبب الحقيقي لحب المهرجانات أنها تعبر عن حالة الشباب دون تجميل أو تدليس للحقيقة، فإذا كانت الأغنية بها الكثير من الفوضى والسخرية فذلك حال الشباب الآن، وإذا كانت تتحدث عن تناول المخدرات أحيانا، فهو بسبب انتشار المخدرات في المناطق الشعبية بكثافة، وهي حقيقة لا نؤيدها، لكن لا يجب أن ننكرها”.

يبدو السخط الشبابي ضد منع المهرجانات نابعا من أسباب رفضها وهذه الظاهرة تعكس تمرد الشاب ومعارضة تقييد تحركه أو آرائه ومنع السخرية من أفكاره. وقد تحولت المسألة إلى عناد أكثر منه إلى تركيز حول القضية ذاتها، ورأى الشباب أن منع المهرجانات تضييق على الحريات العامة وكبح لطاقات الشباب.

وظهر عادل شلبي، الطالب في السنة الثالثة بكلية التجارة – جامعة القاهرة، كشخص سعيد للغاية بعد أن استمع لأغنية واسعة الانتشار اسمها “بنت الجيران” للمطربين حسن شاكوش وعمر كمال التي أصبحت من أكثر الأغاني استماعا خلال شهر فبراير الماضي على موقع (ساوند كلاود).

وجاء قرار هاني شاكر على خلفية الجدل الذي أُثير بعد حفل حسن شاكوش وعمر كمال بملعب القاهرة الدولي وغناء أغنية “بنت الجيران” بنسختها القديمة وما تحتويه من عبارات تشجع على الإدمان وشرب الخمر مثل “أشرب خمور وحشيش”.

ووصفت النقابة كلمات الأغنية بـ”سفاسف” القول، وأصدرت قرارا بإيقاف عمر كمال عن العمل اعتبارا من 17 فبراير الماضي بسبب المخالفات التي تتعارض مع شروط العضوية.

وقف المهرجانات

عند سؤاله عن رأيه في قرار وقف المطربين الشعبيين، فكر قليلا قبل أن يطلق ابتسامة عريضة، وقال ساخرا “منذ قرار هاني شاكر، تغيرت حياتي، وأصبحت لا أتوقف عن سماع المقطوعة التاسعة لبيتهوفن والسمفونية السادسة لتشايكوفسكي.”!

وأوضح أن القضية برمتها أضحوكة كبيرة، ومثال آخر لمواقف عنصرية متشددة، وأن كل ما يرغب فيه نقيب الموسيقيين هو فرض حظر على الشباب ومحاولة تشكيل عقولهم عنوة.

ويؤكد شلبي على أنه أول من يؤيد قرار المنع إن كان وقف المهرجانات سوف يرفع من مستوى وعي المصريين ويجعلهم أكثر انفتاحا ورغبة في الإصلاح ومحاربة الأفكار المغلوطة، مشيرا إلى أن مشكلة الأجهزة الفنية الرقابية في أنها تحارب الجهل بشكل سطحي، وبدلا من رفع المستوى العلمي وسد احتياجات الأفراد تقرر حل المشكلات بالقوة.

ويشبه شلبي قرار منع المهرجان الشعبي بقرار الحكومة منع الحضور الجماهيري لكرة القدم بسبب الفوضى والعنف، واصفا ذلك بنفس العقلية التي تختار دائما الحل السهل الذي لا يستلزم الكثير من التغيير والإصلاح، والكفيل بالمزيد من التدهور.

من جهة أخرى يقلل أحمد علم الدين، أستاذ علم الاجتماع بجامعة حلوان، من أهمية قرار محاصرة الأغاني الشعبية، لعدم قيمة المهرجان الغنائي ككل، ويعتبره لمحة عابرة، ودورة حياته قصيرة، وهو تعبير عن حالة ما في وقت زمني يتبدد مع ظهور حالة جديدة، ويرتبط بأسلوب تعامل الجهات المعنية نفسها مع الظواهر الجديدة.

في غضون سنوات تحولت موسيقى المهرجانات إلى الموسيقى الأكثر شعبية واستماعا على مستوى مصر ودول عربية
في غضون سنوات تحولت موسيقى المهرجانات إلى الموسيقى الأكثر شعبية واستماعا على مستوى مصر ودول عربية

ويشير علم الدين إلى أن أزمة أغاني المهرجانات تتمثل في أنها لا تخضع لرقابة فعلية، وقال “كان من الأكثر منطقية احتواء المطربين تحت مظلة نقابة الفنون الموسيقية، لإعادة تدوير تلك الأغاني الشعبية بصورة تقدم فنا مقبولا وتمنع الإسفاف والإيحاءات غير الأخلاقية لدى الشباب”.

ويفسر علم الدين، حب الشباب لتلك النوعية من الموسيقى بارتباط تكوين وشخصية الشاب عموما بالتجديد والتمرد على ما هو مألوف، والبحث عما يعبر عن الذات في صور مستفزة للأجيال الأكبر التي تلعب دور الواعظ والموجه.

وخلق قرار منع التعامل مع مطربي المهرجانات أزمة في صفوف عدد من الشبان والشابات المقبلين على الزواج ومنهم لطيفة منصور التي تخشى إلغاء الحفل بعد أن أبلغتها إدارة الفندق أنها لن تسمح بدخول المطرب الشعبي مجدي شطة لإحياء الحفل بالفندق انصياعا لقرار النقابة.

وأصيبت منصور بالدهشة أكثر عندما أخبرها والدها أنه عليها عدم إذاعة أي مهرجان بالحفل لأن ذلك حرام شرعا، بحسب ما أقرت به دار الإفتاء المصرية بحجة أن هذه الأغاني تحرض على الفسق وتهدد أخلاق المجتمع.

وقالت لطيفة منصور التي تحب سماع أغاني المهرجانات إنه من دونها لا داعي لإقامة حفل زفاف لأن المدعوين من الشباب يفضلون الرقص على موسيقاها أكثر من أي أغنية أخرى. وأضافت “المهرجانات تغير المزاج الشخصي وتدفع إلى الرقص والتعبير عن الذات وإخراج الطاقات السلبية وتخفف من توتر الحياة عند الشباب والفتيات.”

فن بسيط

بدت الشابة غاضبة من كم القرارات التي صدرت فجأة ضد الأغاني الشعبية، لأنها أعطت حجما أكبر لفن شعبي بسيط يملأ القلوب بالسعادة وتساءلت “هل هي حقا معركة للدفاع عن الذوق العام أم أنها محاولة لاستفزازنا مرة أخرى؟

ويكشف الربط بين الأغنية الشعبية التي تتحدث عن الصراعات والعلاقات بين البشر بلغة بسيطة وسهلة، وبين التراث الشعبي الذي ظهر على مدار التاريخ في “حكايات الأراجوز” في النجوع، وأغنيات عازف الربابة في المقاهي، وسرديات شعراء العامية المستمدة من السيرة الهلالية ورحلات السندباد، وغيرها من الفنون الشعبية البسيطة، عن أسباب نجاح المهرجان وتعلقه بالأذان. فالأغنية الشعبية لغة واحدة يتحدث بها الجميع، وهي تكوين لأنشودة تجمع البساطة واللغة الدارجة والكلمات المعبرة ولحنا صاخبا بوتيرة راقصة. وهو الأمر الذي يرتاح له الشباب.

ويرى المهتمون بالشأن الثقافي في مصر أنه من الأفضل للحكومة تبنّي المهرجانات بصورة مختلفة مثلما فعلت عندما دعمت إطلاق عدد من مطربي المهرجانات لأغان شعبية قصد توعية الشباب ضد الإرهاب، وأشهرها “كل شارع في مصر”، وقام بتأديتها ستة مطربين للمهرجانات هم أحمد لبط وعلاء فيفتي وحودة بندق وشاكوش ومحمود العمدة وحلبسة.

وأشاروا إلى أن تلك الظاهرة يمكن أن تكون البديل المناسب للتعامل مع المهرجانات كي تستوعب المطربين لتأثيرهم الواسع على صفوف الشباب. كما تعيد استغلال الموقف ليصبح هؤلاء المغنون أداة تضخ رسائل مفيدة لقطاع كبير من الشباب بصورة غير مباشرة.

19