احموا الملايين من الهلاك.. عنوان معركة سد النهضة

أديس أبابا تريد انتزاع دعم أفريقيا لقطع الطريق على القاهرة وتقويض مسودة الاتفاق الأميركية.
الاثنين 2020/03/16
ابتسامات لا تخفي العداء

أطلعت رئيسة إثيوبيا، ساهلورق زودى، الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني على تطورات بشأن سد النهضة خلال زيارة قامت بها لكمبالا، السبت، تأتي ضمن جولة أفريقية تستهدف إشراك دول حوض النيل في تطورات الأزمة مع مصر، بدأت من كينيا ومن المتوقع أن تشمل دولا أخرى، في خطوة وصفها مراقبون بمساعي أديس أبابا إلى انتزاع دعم أفريقي لقطع الطريق على القاهرة التي تقوم بحملة دبلوماسية مماثلة هدفها تشكيل جبهة موحدة ضد إثيوبيا.

القاهرة – تسعى إثيوبيا إلى مجابهة الحرب الدبلوماسية في أزمة سد النهضة عبر انتزاع دعم أفريقي.

وتحولت قضية السد إلى أزمة متعددة الأطراف بعد أن سعت القاهرة وأديس أبابا إلى إشراك أكبر قدر من الدول العربية والغربية في الأزمة. وهو ما يفرغها من مضمونها الفني على حساب السياسي لتصبح تداعيات الأزمة نزاعا على الهوية ومجابهة ما يمكن وصفه في الأدبيات الإثيوبية بـ”خطاب الاستعمار الجديد” ورفض التنمية المحلية الذي يدغدغ المشاعر.

بدأت إثيوبيا حملة ترويجية واسعة لقضية سد النهضة لتوفير غطاء سياسي قبل البدء في عملية ملء بحيرة سد النهضة في يوليو المقبل، وقطع الطريق على مصر التي تقوم بحملة دبلوماسية مماثلة في دوائر عربية، أبدت تفهمها لموقف القاهرة.

وانطلق عدد من المسؤولين في جولات مكوكية لبعض الدول ومخاطبة منظمات أفريقية متعددة، لعرض نتائج مفاوضات سد النهضة الأخيرة عليهم، مع التركيز على حصول أديس أبابا على تأييد سياسي وتلبية رغبتها في نقل عهدة المفاوضات من واشنطن إلى الدائرة الأفريقية.

وعقدت رئيسة إثيوبيا ساهلورق زودي لقاءات مع مسؤولي المفوضية الأفريقية برئاسة موسى فكي، والذي تتخذ من أديس أبابا مقرا لها، ونجحت في انتزاع تصريحات تساند موقف بلادها، وتؤيد عقد مفاوضات جديدة دون رقابة أو دعم من خارج القارة.

ودعا الرئيس الكيني أوهورو كينياتا مصر والسودان وإثيوبيا إلى ضرورة العودة إلى طاولة المفاوضات دون إشراك طرف أجنبي، والوصول إلى حل شامل ومرضي لجميع الأطراف.

وأثنى كينياتا على الدور الإثيوبي الحامي لحقوق دول حوض النيل، ووضع الاتفاقات المشتركة بين دول حوض النيل فقط كآلية قانونية للتوصل إلى اتفاق بين مصر وإثيوبيا.

 بدوره، دعا الرئيس الأوغندي يورى موسيفيني إلى عقد قمة أفريقية عاجلة حول حوض النيل حتى يتمكن رؤساء الدول من إجراء نقاشات صريحة حول قضايا النيل.

تناقض أثيوبي

تأتي المحاولات الإثيوبية ردا على التحرك الدبلوماسي المصري الذي بدأ مطلع مارس الجاري، وشمل زيارات مكثفة لوزير خارجية مصر سامح شكري لعدد من الدول العربية والأوروبية بغية تشكيل جبهة موحدة ضد إثيوبيا.

تعتقد إثيوبيا أنه من حقها شرح موقفها، لكنها على عكس القاهرة، اختارت التحرك جنوبا وشرح القضية للشركاء في الأزمة، وهم جيرانها بحكم الجغرافيا والمصالح السياسية والفنية.

تحمل هذه التحركات مجموعة من الرسائل السياسية، أبرزها الوصول إلى حل من داخل القارة في القضايا التي تهمها دون السماح لقوى كبرى في التدخل في ما لا يعنيها، وإعادة تشغيل مصادر المياه لصالح الشعوب الأفريقية وتحقيق تنمية مستدامة.

دنيال تاي سيلاسي: القاهرة أخطأت حين رفضت الوساطة الأفريقية
دنيال تاي سيلاسي: القاهرة أخطأت حين رفضت الوساطة الأفريقية

هنا يرد متابعون للأزمة في القاهرة، بالقول إن أديس أبابا قبلت بمبدأ التفاوض في حضور الولايات المتحدة والبنك الدوليين بإرادتها، وتنصلها الحالي مما جرى بلورته من المسودة الأميركية يعكس رغبة في استهلاك المزيد من الوقت، لأن هناك اتفاقا على المبادئ جرى توقيعه بالخرطوم في مارس 2015، وهو الذي أشار إلى الاستعانة بطرف دولي.

ومنذ تصاعد حالة التوتر بين البلدين، ركزت أديس أبابا في مختلف الفعاليات التي تشمل دولا أفريقية على ردع محاولات الهيمنة من قبل أي طرف على حساب آخر، ووقف كل سياسة تحمل نزعة توصف بـ”الاستعمارية”.

وتحاول أديس أبابا ربط مصطلح “الاستعمار” بالقاهرة بصورة متكررة، وتعتمد على تبني مصر اتفاقات تقسيم المياه عام 1929 التي وضعتها بريطانيا، معتبرة الحكومة المصرية امتدادا لتلك الأدوات الاستعمارية التي فُرضت لفترات طويلة على الدول الأفريقية. تعتقد إثيوبيا بهذه الطريقة أنها تؤثر في التوجه الأفريقي العام، متجاهلة أن للقاهرة علاقات وطيدة مع هذه الدائرة، عززتها خلال رئاستها للدورة السابقة للاتحاد الأفريقي.

تلعب الحكومة الإثيوبية على البعد السياسي العاطفي، مستغلة معاناة شعوب القارة لعقود طويلة مع التنمية، بصورة حولت قضية السد من نزاع على المياه إلى معركة مقاومة وطنية ضد الاحتكار، بالتالي تخرجها من سياقها التنموي الذي لم ترفضه مصر، إلى مسار يتعلق بالهيمنة.

بدت إثيوبيا التي تتبنى لغة ذات نزعة شعبوية، تراهن على الخطابات اليمينية التي امتدت بين زعماء القارة طوال فترات الاحتلال في الستينات والسبعينات، قبل أن تندثر مع تحول النظام العالمي إلى منظومة أحادية القطب، تحكمها قواعد ليبرالية متأرجحة.

وأشار الكاتب الإثيوبي، دنيال تاي سيلاسي، في تصريح لـ”العرب”، إلى أن الحكومتين في مصر وإثيوبيا تتهمان بعضهما بمحاولة السيطرة على نهر النيل، وبسبب تلك السياسة العدائية بات كل طرف يريد أن يصنع جبهة ضد الآخر تحت شعار “احموا الملايين من الهلاك”. ولفت إلى أن “تلك السياسات امتداد لأفكار زعماء مؤثرين في القارة ظهرت بعد انتهاء موجات الاحتلال في أفريقيا، مثل الزعيم المصري جمال عبدالناصر، والإثيوبي ميليس زيناوي، وهي سياسة الذعر من عودة المستعمر، وضرورة تعزيز القومية الأفريقية لحماية القارة”.

وزعم أن “مصر مسؤولة عما وصلت إليه الأزمة من توتر غير مسبوق، لأنها بدأت بتدويل القضية مبكرا عندما أشركت الولايات المتحدة والبنك الدولي في مباحثات سد النهضة، ثم ضغطت لتوقيع اتفاق بصناعة أميركية، في وقت يستشعر فيه المواطنون أن واشنطن تريد خنقهم”.

وألمح إلى أن القاهرة عززت من نظرة بعض الدول الأفريقية إليها على أنها تتعالى على القارة وترغب في فرض هيمنة عليها، عندما دفعت الولايات المتحدة نحو قضية سد النهضة، قائلا “مصر أخطأت مرتين، الأولى عندما أحضرت قوة كبرى ينظر إليها على أنها بلد مستعمر جديد يرغب في استنفاد ثروات القارة، والثانية لأنها رفضت الوساطة الأفريقية من البداية”.

ورغم الخطاب الذي بدا مناهضا لمساندة الولايات المتحدة في القضايا الداخلية، فإن إثيوبيا أظهرت تناقضا مع استعداد الحكومة لاستقبال الدفعة الأولى من المنحة الأميركية المقدرة بخمسة مليارات دولار لتطور المنظومة الصناعية والفنية بالبلاد.

وأوضح مراقبون، أن فكرة “مناهضة الإمبريالية الأميركية” لم تعد مقبولة سياسيا، في نظام العولمة الذي تتشابك فيه المصالح، وتحتاج الدول النامية إلى دعم كبير لتحفيز اقتصادها.

أزمة حوض النيل

اجتماعات متكررة دون حلول
اجتماعات متكررة دون حلول

عكس التحرك الإثيوبي الأخير، ممارسات أخرى ومنها استغلال الورقة السياسية ذاتها التي استخدمت ضد مصر والسودان في اتفاقية عنتيبي عام 2011، حيث وضعت قواعد جديدة لاستخدام مياه النيل بين دول حوض النيل، ورفض البلدان التوقيع عليها.

وأبرز الموقف السياسي وقتها لدولتي المصب (مصر والسودان) أنه امتداد لسياسات بائدة، ما حفز تسع دول للتوقيع على الاتفاق وتفعيله كآلية لمنع هيمنة أي طرف على ثروات القارة.

وتؤكد التصريحات المختلفة خلال لقاءات المسؤولين الإثيوبيين مع مسؤولين أفارقة، ومنها تصريحات وزير الخارجية الأوغندي سام كوتيسا في لقائه مع نظيره الإثيوبي جيدو أندارجاشيو، الأسبوع الماضي، ضرورة استغلال قضية سد النهضة لتكون قاعدة لتنمية حوض النيل.

وتعزز سياسة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، الرامية إلى إخراج أزمة سد النهضة من إطاره الخلافي ليصبح قضية نزاع إقليمي بين مصر والدول المتشاطرة في نهر النيل.

تبدو إحدى الأزمات السياسية لسد النهضة في مسألة الأطراف الخارجية التي يمكن أن تتوسط في نقاط الخلاف، حيث حاولت إثيوبيا دون جدوى منذ دخول الإدارة الأميركية على خط الأزمة، البحث عن بدائل أخرى، ودعت إلى اعتماد جنوب أفريقيا كمراقب في المفاوضات باعتبار أن بريتوريا تتولى رئاسة الاتحاد الأفريقي حاليا.

وأضحت نظرية الحل الأفريقي سائدة على أجندة الحكومة الإثيوبية التي ترى أن أزمات القارة لا تُحل إلا داخلها، وهي ورقة أخرى تدغدغ المشاعر وتبرز الجانب الإثيوبي على أنه يقوم بدور وطني ينتمي إلى أفريقيا، والاستفادة من فوبيا، أو مخاوف، النزاع على ثروات القارة.

وقال أستاذ السياسة الدولية بجامعة القاهرة مصطفى رجب، في تصريح لـ”العرب”، إن “الممارسات الإثيوبية غير المحسوبة تهدد المنطقة ككل، بعد أن قدمت ثغرة لزيادة الأعباء على كهل القارة، وسط كم هائل من الشحن المتبادل”.

وتابع “تلويح إثيوبيا بأنها لم ترد الاشتراك في المفاوضات في واشنطن غير دقيق، لأنها لم ترغم على المشاركة، كما أن التصريحات الأميركية على لسان وزير خارجيتها مايك بومبيو أشارت في أكثر من مناسبة إلى أنه لا توجد ضغوط على أديس أبابا، والحل يقوم على التوافق والرضا بين الأطراف المتنازعة”.

وما يمكن استنتاجه، أن أديس أبابا تدرك أن توفير مظلمة أفريقية لسد النهضة قد لا يكون فعالا بالقدر الكافي أمام جبهة أميركية تبدو قريبة من القاهرة، لكنها على الأقل تصنع المزيد من الجدل الذي يعطل مساعي تدويل القضية وعدم تثبيت رغبة إثيوبيا في بدء تشغيل كهرباء السد قبل نهاية العام.

7