كرة تتلهى بالأدب

بدا مدهشا أن تَشغَل جملة صغيرة بحجم “الغرفة 101” نصف الملعب الذي أَمَّ ديربي المغرب. وبعد شهر على ذلك، لم تهدأ المفاجأة، ولم يهدأ معها النقاش، الذي ركز في مجمله على الرسائل السياسية لهذا التيفو المُحمَّل ببلاغته. وذلك خصوصا أن الأمر يحيل على رواية “1984” الشهيرة التي كتبها، في نهاية أربعينات القرن الماضي، الروائي البريطاني جورج أورويل.
وهذه الرواية سبق أن أثارت نقاشا كبيرا خلال عقود، قبل أن يُشعَل من جديد، هذه المرة، من داخل أحد ملاعب كرة القدم. ويعود ذلك بالأساس إلى طبيعة متخيل الرواية التي سعت إلى رسم طبيعة العالم، كما يفترض أن يكون بعد مئة سنة على كتابتها.
ويجعل جورج أورويل، في هذا السياق، العالمَ مقسَّما بين ثلاث مناطق تسود بينها الحروب، متخيلا أيضا بلدا يحكمه نظام سلطوي، حيث تغيب حرية التعبير. كما ستكون حدةُ الرواية وقدرتها على التخيل وراء نجاحها، وفي نفس الوقت وراء لعنة ظلت تلاحقها خلال عقود.
ومن ذلك، على سبيل المثال، إقبال موقع أمازون الشهير على حذفها من لائحة مبيعاته، قبل مدة، وهو ما تم اعتباره شكلا من أشكال الرقابة التي تحدَّثَ عنها نصُّ الرواية. بل إن جورج أورويل نفسه كان تحت مراقبة الدولة أثناء كتابته لروايته، اعتبارا للشكوك التي كانت تحوم حول ميولاته الاشتراكية، كما تشير إلى ذلك الكاتبة أنا ماتيوس. وذلك قبل أن يَخرج المعهد البريطاني، باعتباره جهة رسمية، في مطلع السنة الجارية، باعتذار إلى الكاتب الراحل، وذلك بخصوص امتناع المعهد، قبل سبعين سنة، عن نشر كتاب كان قد أعده جورج أورويل. وإن كان الكِتاب، الذي يتناول الطبخ البريطاني، لا يحمل بالطبع أي رائحة سياسية.
حضور رائحة نص رواية “1984” داخل ملعب رياضي لم يكن معزولا. إذ كانت نصوص أخرى قد حلت ضيوفا على نفس الفضاء. ولعل من أهمها رواية “مزرعة الحيوان”، التي كتبها أيضا جورج أورويل خلال منتصف أربعينات القرن الماضي، والتي يتخيل فيها مزرعة، تثور فيها الحيوانات لتنتهي بالاستيلاء على السلطة طاردة البشر.
ولم يكتف صانعوا هذا الحدث بنصوص جورج أورويل، بل إنهم عادوا إلى ربيرتوار كاتب مسرحي آخر وهو أوجين يونسكو، ليستضيفوا نصه “المغنية الصلعاء”، القادم من مسرح العبث.
والأكيد أن هذا الحضور المفاجئ لهذه النصوص داخل فضاء غير فضائها لم يمر دون أن يثير الكثير من الجدل، ودون أن يترك وراءه الكثير من التحليلات السريعة التي حرصت على البحث فقط في الرسائل السياسية المفترضَة التي قد تحملها الفكرة. وهو الأمر الذي يفتح هامش التورط في الكثير من الإسقاطات التي قد تُقوِّل النصوص الأدبية ما لم تقله.
كما لا يجب أن ننسى، وهذا هو الأمر الذي يبدو مفارقا، أن الجمهور العريض الذي ينفذ الفكرة والذي يحمل التيفو الضخم على أكتافه، لم يسبق له، في غالب الأحيان، أن تَصفح ولا أن قرأ أي نص من النصوص الأدبية المذكورة. أما الطريف فهو كون الذين يحملون الأعمال الأدبية لم يكونوا أصلا يدركون طبيعة ما يحملونه. وهو الأمر الذي قد نجد تفسيره من جهة، في طبيعة صناعة التيفو التي تقوم على القِطَع المركبة، ومن جهة أخرى، في الطابع الهرمي الذي يحكم تنظيم المشجعين، حيث تنحصر عملية التفكير في خلية محدودة، بينما يتولى الآخرون التنفيذ.
وخارج هذه الحالات، لم تَكُف العلاقة بين الأدب والرياضة عن خلق تقاطعها في الاتجاهين، وذلك اعتبارا لما هو مشترَك بينهما، خصوصا على مستوى السحر والإبداع والفرجة التي يخلقها الطرفان، كل بطريقته وبلغته وبأفقه وبشكله الجمالي. وإن كانت هذه العلاقة تبدو غير متوازنة أحيانا. ذلك لأنه في الوقت الذي تعيش فيه الرياضة على حجم جمهورها الواسع وعلى قوة الفرجة الكونية التي تستطيع أن تخلقها، بفضل طبيعتها وبقوة المال والإعلام، يختار الأدب أن يكتفي، في الكثير من الحالات، بدور المنبهر، دون أن يمنع ذلك الرياضة والأدب من تبادل طرق الإبداع.
وامتدادا لذلك، تبدو الكثير من الكلمات التي تصدح بها جماهير كرة القدم، على سبيل المثال، قصائد جماعية بامتياز، قد لا تقل عن شعر الحماسة، وإن اختلف الشكل والمستوى الجماليان.
كما تحمل الكثير من أشكال التيفو جانبا هاما من الإبداع الأدبي والفني. ذلك لأنها، كما يقر الباحث والصحافي فرانك بيرتو في كتابه “قاموس المشجعين”، لا تُعد بشكل مرتجل. بل إنها أعمال تنجز على مهل، مع كل التوابل التي يقتضيها ذلك، بما فيها النصوص الأدبية والرسوم والصور وغيرها من الأشكال الفنية. وذلك بالرغم من كون أعمال التيفو تُعرض لوقت وجيز لتندثر تاركة وراءها إما الإعجاب أو السخط، بخلاف الأعمال الفنية التقليدية التي تسعى إلى تحقيق خلودها المادي والرمزي الدائم.
وبالرغم من جانبها الجمالي، لم يخل إنجاز الكثير من أعمال التيفو من حوادث قد تكون صادمة. ويحتفظ تاريخ هذه الأعمال بالكثير من هذه الحالات، لعل أبرزها إقدام جمهور نادي جمعية سانت إتيان الفرنسي، قبل عشر سنوات، على رفع تيفو يشَبه لاعبي فريق أولمبيك ليون بالحيوانات، مع شعار مستفز “الصيد مفتوح، اقتلوهم”. بينما كان مشجعو نادي ستاندار لييج البلجيكي أكثر عنفا حينما رفعوا لوحة ضخمة يبدو فيها، بشكل صادم، اللاعب ستيفان ديفور مقطوع الرأس، وهو الأمر الذي أثار نقاشا كبيرا، خصوصا اعتبارا لتزامن ذلك مع الجرائم المرعبة التي كان يقدم عليها داعش الإرهابي.
في مقابل هذه العلاقة التي تفتح الباب أمام الرياضة لاستعارة بعض من روح الأدب والفنون، يبدو الاتجاه المعاكس الذي من المفترَض أن يُشرَع أمام انفتاح الأدب على الرياضة شبه مغلق. وقد لا يتجاوز ذلك حالةَ الإعجاب الشخصي للأدباء، والذي قد لا يصل أثره إلى نصوصهم الإبداعية. ولعل ذلك من باب الخوف من ضيف اجتمعت فيه قوة المال وسحر الإبداع وسلطة الحضور الكوني.