ليلة انتصار شهرزاد في باريس

شكّلت ألف ليلة وليلة نقطة علّام في تاريخ الأدب الأوروبيّ، إذ حرّكت مخيّلة الكثير من الشعراء والكتّاب بوصفها وثيقة سحريّة عن الشرق الغرائبيّ، لكنها في ذات الوقت خضعت لقراءة استشراقيّة جعلت محتواها يبدو للبعض كدلائل إثنوغرافيّة، ومرجعا “حقيقيا” عن الشرق وناسه وطباعه في نفي للمتخيّل الذي تحويه باعتباره يتطابق مع “الواقع”، لكن هناك قراءات أنصفت النص، وأعادت الاعتبار لشهرزاد، التي روت وحكت لتنجو بحياتها من بطش شهريار الذي أعمته الغيرة، بل أن بعض النسويات قررن قتل شهرزاد، بوصفها المثال الأشدّ تكريسا لدور الحريم، الذي لا بد من الانفكاك منه.
باريس - يستضيف مسرح الأوديون في العاصمة الفرنسية باريس عرض “ألف ليلة وليلة” للمخرج غيوم فانسانت، المقتبس بحرية شديدة عن النص الأصلي حسب وصف المخرج، الذي يحاول أن يعيد قراءة حكاية شهرزاد وما ترويه في سعي للتركيز على “فن الحكاية” سواء كانت خرافيّة أو ذات خصائص واقعيّة، وذلك ليكشف لنا عن دموية شهريار، ومغامرة شهرزاد لإيقافه عبر اثنتي عشرة حكاية فانتازميّة مقتبسة عن النص الأصلي تحوي مفارقات وعبرا إنسانيّة وأحداثا غرائبية يتداخل فيها الإباحي مع السياسيّ، كما يشير العرض إلى تاريخ الشرق من جهة وأشكال تمثيله وظهوره في فرنسا من جهة أخرى.
زيجات شهريار
يبدأ العرض أمام بوابة قصر شهريار، الذي يتحول إلى مسلخ دمويّ، إذ تنتظر أمام الباب خمس عرائس يرتدين الأبيض بانتظار مصيريهن، وكلما فُتح باب القصر، تصعد واحدة منهن إلى مخدع شهريار كي تذبح، ثم تسيل دماؤها أمامنا وأمام الأخريات، ما ينشر إحساسا بالرعب بين الجمهور، فشهريار سفّاح مهووس، نكتشف لاحقا
أن سبب ذلك يتشابه مع سير القصة الأصلية، إذ خدعه مسعود واحد من عبيد زوجته، وتنكر ليدخل أمام عينيه إلى مخدعه ليلتقي زوجته، وحين اكتشف شهريار ما بينهما، قام بذبح زوجته ومسعود، ليبدأ بعدها، وفي كل ليلة، بالزواج من عذراء، ثم قتلها خوفا من الخيانة.
عرض داخل عرض
يوظف العرض تقنيات الحكاية داخل الحكاية، والتي تختلف إثرها أشكال المشهدية حين الانتقال من حكاية لأخرى، إذ تبدأ شهرزاد بقصة “الحمال والبنات” التي تدور في مصر، والتي تحمل ذات خصائص الحكاية الأصليّة، لكن العرض ينوع جنسيات ولهجات الشخصيات، مؤكدا على تداخل مصادر الحكاية الأصليّة، لنرى أمامنا الضحك والتهريج، الشعر والحكمة، العفة والإيروتيكيّة، وما إن تأخذ الحكاية منعطفا غرائبيا في قصة العميان الثلاثة الذين زاروا البنات، حتى تختلف أشكال الفرجة، فمرة نرى أنفسنا أمام أداء كوميدي فردي، وبعدها أمام ما يشبه مسرحيّة أطفال هزليّة تأخذ منحى دمويا، لكن المشترك بين الحكايات الثلاث هو أن كل واحد من الرواة يحكي كيف ترك بلاده وهجّر في الأرض يبحث عن الأمان.
المثير للاهتمام أن العرض يحيل إلى التاريخ المعاصر، إذ نسمع أصوات المظاهرات في مصر، ونكتشف نهاية أن الحمال سوريّ ترك بلاده ويحاول العودة لها بعد أن صفحت الأخوات الثلاث عنه ولم يقتلنه لشدة تأثرهن بالحكايات التي سمعنها. هذه العلاقة مع الشرق المعاصر تتضح فجأة حين تبدأ أمامنا حكاية عن زيارة أم كلثوم إلى باريس، وأدائها على مسرح الأولمبيا، وأبعاد هذا الحدث السياسية خصوصا بعد هزيمة الـ67، إذ كان لأم كلثوم دور في بعث الأمل لدى الحضور الذين كسرت خواطرهم الهزيمة، فما إن وصلت باريس حتى اشتعلت المدينة بعشاقها، بل أن شارل ديغول نفسه أرسل برقية لها بمناسبة وصولها، لنصل إلى لحظة موتها، تلك التي يقول محبوها الذين نراهم على الخشبة إنها غيرت وجه الشرق، فلا أحد يستطيع أن يستبدلها أو أن يحلّ مكانها.
ضد "التمثيل"
يبدأ القسم الثاني من المسرحيّة في سياق معاصر في فرنسا، لنتعرف على مصطفى القادم إلى باريس من المغرب العربيّ، والذي يسعى لأن يكون مؤديا كوميديا، ليناقش بعدها العرض التنميط الذي يخضع له ذوو الأصول العربيّة حين يتم تمثيلهم في أوروبا، إذ يتم اختيار مصطفى دوما ليؤدي دور الإرهابي أو الجهاديّ، بل نراه يتوجه لوكيلة التمثيل العنصريّة سائلا إياها لماذا لا يتم اختيار عربيّ ليؤدي دور طبيب مثلا أو مهندس، ويلفظ كلمة “الله أكبر” أثناء الصلاة وحيدا في منزله.
يأخذنا بعدها العرض إلى حكاية أخرى من ألف ليلة وليلة وهي قصة العشيق الذي يفقأ عينيه لأنه خسر من يحبّ وتلك التي أحبته، لنكتشف لاحقا أنه ذاته الذي كان في منزل البنات الثلاث، لتطغى على العرض هنا الميلودراما والصراعات التي تدور في قلوب العشاق، لننتقل بعدها وفجأة إلى لحظة انتقام شهرزاد، التي تخصي الرجال الذين يريدون دخول مخدعها، قبل أن تسكت عن الكلام المباح، ما يترك الجمهور في صدمة تختلف عن المتخيل التقليدي المرتبط بنهاية شهرزاد، فمسلخ النساء العلويّ يتحول إلى مساحة للخصاء، وضرب في جوهر الرجولة التي يتبناها شهريار والمرتبطة بالعفة والاحتكار القضيبي، وكأن شهرزاد تنتصر لا فقط بالسرد، بل بمواجهة “مُشتهيها”، إذ لا تدفع مصيرها بعيدا بحكاية، بل تأخذ زمام المبادرة، خصوصا أننا لا ننسى تاريخ القتل الذي مارسه شهريار، والذي لا يختفي أمام شعريّة الحكاية.
يقدم العرض عددا من أشكال الفرجة، إذ نشاهد التهريج والبروليسك، وعروض السحر، إلى جانب عروض الدمى المخصصة للأطفال، في محاولة لجعل الشكل الحكائيّ الذي يميّز ألف ليلة وليلة مفتوحا على أغلب أشكال الفرجة المسرحية، فالجني يرتدي قناعا ضخما للأطفال، تساعده واحدة من شخصيات شارع سمسم لقتل سجينته، كما يتحول الممثلون إلى كلاب وقردة ويتبادلون الأدوار بينهم، وكأننا أمام اختبار جديّ للقدرة على خلق “الغرائبيّ” وجعله لا فقط ممتعا بل قابلا للتصديق، خصوصا أن الرعب المرتبط بالجن والوحوش لا يعني “الإخافة” والاعتماد على الأشكال، بل تبنّي أسلوب لسرد وأداء “الحكاية” يجعلنا نقشعر خوفا حين تقوم شخصية كرتونيّة محببة بقطع الرؤوس، في ذات الوقت يراهن هذا الأسلوب على المفارقة التي نعيها، كوننا نرى الكثير من أشكال الكيتش التي تنتقد مفهوم “الشرق الأوروبيّ”.
يحاول العرض أن يتبنى صيغة أفلام الرعب، والتي يتأهب فيها المشاهد ويخلق لديه شعور هش بالتصديق، كونه يعلم أن ما يراه شكل من أشكال اللعب، لكنه يترك العنان لمخيلته كي تتماهى مع ما يراه، مصدقا الخطر الواقع على الشخصيات، المتمثّل بالتهديد بالقتل الموجود في حكاية شهرزاد الأصليّة وضمن الحكايات الفرعيّة، وهنا تظهر نقطة قوة العرض الذي يراهن على الحكاية المُتخيّلة بوصفها وسيلة للنجاة، لا فقط نجاة شهرزاد، بل البشرية بأكملها، التي يمكن أن “تعتبر” من الحكاية التي قد تحوي خلاص “الجميع”.
لا تظهر النوستالجيا ضمن العرض، فلا زمن جميلا يحنّ له العرض سوى ذاك الخاص بأم كلثوم بوصفها أسطورة مستمرة، إذ يحاول فانسانت أن يجعل الحكايات التي يرويها معاصرة وعلى تماس مع ما يحصل الآن، خصوصا أن فرنسا تشهد حركات احتجاجية مرتبطة بالعنف ضد النساء والقتل الذي يتعرضن له من قبل الرجال، ليأتي العرض أشبه بانتصار للمرأة ضد ذكورية وحشيّة تأخذ شكلها الغروتيسك مع شهريار، صاحب مسلخ النساء اللاتي يستخدمهنّ للذّاته ودفاعا عن خوفه من الخيانة، لتأتي شهرزاد بوصفها أملا للمدينة التي لم تعد تحوي نساء، فالخلاص لا يتجلى بجسد شهرزاد، بل عبر حكاياتها التي تستمر عبر الزمن.