الشكوك تحاصر إصلاح فوضى الصناديق الاجتماعية التونسية

حلول حكومية مؤقتة لا تحجب جبل المشكلات المالية المزمنة لدرجة أن الأوساط الاقتصادية تتحدث عن دخول الصناديق الاجتماعية في إفلاس غير معلن.
الأربعاء 2019/05/29
حالة الطوارئ مستمرة

اتسعت شكوك الأوساط الاقتصادية التونسية في فرص نجاح مساعي الحكومة لإصلاح فوضى الصناديق الاجتماعية، التي تعاني من عجز غير مسبوق في ظل اقتصار الخطط المطروحة على حلول مؤقتة في مسار يتطلب معالجة جذرية للاختلالات في التوازنات المالية.

تونس – تتزايد خشية الخبراء من استمرار فوضى العجز المالي، الذي ضرب الصناديق الاجتماعية التونسية طيلة السنوات الثماني الماضية وجعلها تغرق في أزمة لا يمكن لأحد التكهن متى ستنتهي رغم الجهود المبذولة لإعادة هيكلتها.

وانعكس الركود وتباطؤ النمو في الكثير من القطاعات الإنتاجية على وضعيات الصناديق بعد أن باتت ترزح تحت مشاكل مالية مزمنة، لدرجة أن الأوساط الاقتصادية تتحدث عن دخولها في إفلاس غير معلن.

ويعود الخلل في التوازنات المالية للصناديق إلى عدم سداد عدة وزارات وهياكل تابعة لها مساهماتها، كما أن الكثير من الشركات الخاصة لم تعد قادرة على الوفاء بالتزاماتها لتعطل عجلة الإنتاج عن الدوران بالشكل الذي كانت عليه في السابق.

ويضم النظام الحالي 3 صناديق، حيث تذهب مساهمات موظفي الدولة والقطاع العام إلى الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية، بينما يقوم القطاع الخاص بدفع مساهمات القوى العاملة لديه إلى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.

ولئن كان الصندوق الوطني للتأمين على المرض (كنام)، الذي أنشئ في 2007 كنسخة تونسية من النموذج الفرنسي بهدف تخفيف الضغط الكبير على الصندوقين الأقدمين في البلاد، إلا أنه يعاني أيضا من عجز كبير بسبب شح السيولة النقدية.

1 مليار دولار قيمة العجز  المالي في الصناديق الاجتماعية الثلاثة، وفق ما تشير إليه التقديرات

وأعطى البرلمان مطلع الشهر الماضي جرعة تفاؤل للحكومة لإعادة هيكلة الصندوق الحكومي فقط حين أقر مشروع قانون رفع سن التقاعد للموظفين إلى 62 عاما بدلا من 60 عاما، مع زيادة مساهمات الموظفين بنحو 3 بالمئة.

وسيسري هذا القرار بالتزامن مع تنفيذ ضريبة أمان اجتماعي بنسبة واحد بالمئة بداية من العام المقبل.

لكن البعض من الاقتصاديين والسياسيين اعتبروا خلال ندوة نظمها مؤخرا المعهد العربي لرؤساء المؤسسات، وحضرتها “العرب”، أن إعادة هيكلة الصندوق الخاص بموظفي القطاع العام فقط تعد خطة منقوصة.

وقال نافع النيفر عضو المكتب التنفيذي للمعهد في كلمة له في الندوة إن الخطوة “غير كافية لبلوغ التوازن المالي في الصناديق الاجتماعية”.

وتشير التقديرات إلى أن العجز المالي في الصندوق الخاص بموظفي الدولة بلغ بنهاية العام الماضي نحو مليار دينار (333 مليون دولار)، مقارنة بنحو 303 ملايين دولار بنهاية 2016.

نافع النيفر: يجب اعتماد الحوكمة في الصناديق وتنويع مصادر دخلها
نافع النيفر: يجب اعتماد الحوكمة في الصناديق وتنويع مصادر دخلها

كما وصل العجز المالي في الصندوق المتعلق بموظفي القطاع الخاص إلى قرابة 330 مليون دولار بنهاية 2018، قياسا بنحو 160 مليون دولار قبل عامين.

وكان البرلمان قد صادق قبل أشهر على مشروع قانون يتيح تحويل مساهمة الموظفين في القطاع العام مباشرة لصندوق الكنام، مما سيحد من ديونه التي بلغت حاليا 3 ملايين دينار (مليون دولار).

ولكن الأرقام قد تكون أكبر، حيث يقول المختصون إن إجمالي العجز المالي للصناديق الثلاثة قد يصل إلى مليار دولار، ما يطرح تساؤلات حول عدم إعلان الدولة بشكل صريح عن الأرقام الحقيقية والعمل سريعا على حل المشكلة.

ويرى النيفر أن الإصلاح الفعلي لا بد أن يشمل كافة العناصر المتعلقة بمنظومة التقاعد بدءا بسن الإحالة على التقاعد مرورا بنسبة المساهمات ووصولا إلى الأجر المرجعي ومردود السنوات التي عمل فيها الموظف.

وأشار إلى ضرورة اعتماد مبدأ الحوكمة في جميع الصناديق وزيادة مستوى المساهمات وتوسيع قاعدة التغطية الاجتماعية، بالإضافة إلى تنويع مصادر التمويل.

وفي حال استمرت خطوات إعادة هيكلة الصناديق تسير ببطء شديد، فإن توقعات الخبراء ترجح أن يبلغ العجز في صندوق الحيطة الاجتماعية نحو 2.2 مليار دولار، بينما سيصل العجز في صندوق الضمان الاجتماعي إلى نحو 1.76 مليار دولار بحلول 2030.

وتبدو المؤشرات مفزعة رغم أن رئيس الحكومة يوسف الشاهد أصر مرارا على أن هناك حرصا جماعيا لتبني سياسة ترسخ نظام الحماية الاجتماعية، الذي يعد مكسبا للدولة في مسار إرساء العدالة الاجتماعية.

وكان الشاهد قد قال خلال ندوة في وقت سابق هذا الشهر ناقشت مسألة الحماية الاجتماعية إن “الحكومة تولي ملف إصلاح المنظومة الاجتماعية اهتماما كبيرا خاصة في ما يتعلق بالضمان الاجتماعي والصناديق الاجتماعية”.

وحتى تستكمل خططها في هذا المضمار، دخلت الحكومة في مفاوضات مع الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة، أكبر نقابتين في البلاد، حول رفع سن التقاعد للمساهمين في صندوق موظفي القطاع الخاص إلى 62 عاما.

أزمة لا يمكن لأحد التكهن متى ستنتهي
أزمة لا يمكن لأحد التكهن متى ستنتهي

وقد اعتمدت السلطات مطلع ديسمبر الماضي آلية أكثر حزما تتيح للصناديق الاجتماعية استرداد مستحقاتها لدى المؤسسات والشركات في القطاعين العام والخاص.

وأشار وزير الشؤون الاجتماعية محمد الطرابلسي حينها إلى أن مستحقات الصناديق الاجتماعية المتراكمة منذ سبعينات القرن الماضي تقدر قيمتها بنحو 1.47 مليار دولار.

وأوضح أن 307 ملايين دولار من بين تلك المستحقات لدى مؤسسات القطاع العام، مثل الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه والشركة الوطنية للسكك الحديدية والبريد وغيرها.

وأكد أن بعض تلك الديون بالإمكان استرجاعها، بينما لا يمكن استرداد البعض الآخر لأنه بات ديونا معدومة ومن الصعب الحصول عليها.

وتوضع الاستراتيجيات التنموية للحكومات المتعاقبة، حتى منذ عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، في قفص الاتهام حيث أدت، وفق المختصين، إلى صعوبات في الإدماج المهني كما تتعدد الشركات المديونة للصناديق الاجتماعية.

وبدأت المؤشرات السلبية للصناديق تظهر منذ عقد من الزمن تقريبا، حيث حذرت الأوساط الاقتصادية حينها من تواصل العجز المسجل، الذي شهد تفاقما بالتوازي مع انخفاض نسب النمو بعد يناير 2011.

محمد الطرابلسي: جزء من مستحقات الصناديق هو عبارة عن ديون معدومة
محمد الطرابلسي: جزء من مستحقات الصناديق هو عبارة عن ديون معدومة

وظهرت أولى بوادر أزمة الصناديق في بداية تسعينات القرن الماضي حيث أقرت السلطات في 1994 الترفيع في نسبة المساهمة بعنوان أنظمة التقاعد في القطاع العام بنحو 2.2 بالمئة.

وبعد سنوات وتحديدا في 2007 تم الترفيع في مختلف أنظمة التقاعد في القطاع العام بثلاث نقاط إضافية، لتشهد عملية رفع جديدة بنقطة واحدة بداية من يوليو 2011.

ويلقي العديد من الخبراء والمحللين بالمسؤولية بخصوص العجز الحاصل في الصناديق على ارتفاع أعداد المساهمين المحالين على التقاعد المبكر، أي قبل سن الستين، في القطاع العام حيث تشير الإحصائيات إلى أنهم بلغوا قرابة 60 بالمئة من مجموع المحالين على التقاعد.

كما أن ارتفاع أمل الحياة عند الولادة ليبلغ 74 عاما سبب غير مباشر لذلك العجز المالي، فبقدر ما يمثل هذا الأمر مؤشرا إيجابيا بقدر ما يثقل كاهل الصناديق ماليا مع ارتفاع نسبة التهرّم السكاني.

وفي مسعى إضافي لإصلاح النظام الصحي، بدأ صندوق الكنام في الـ22 من أبريل الماضي بتوزيع البطاقة الإلكترونية “لاباس” على أكثر من 3.2 مليون مواطن.

 وستكون هذه البطاقات سارية المفعول بداية من نوفمبر المقبل، في خطوة تهدف لتعزيز التحول إلى الحلول الذكية وإنقاذ القطاع من أزمته المالية.

وتعتقد السلطات أن الوقت قد حان لتغيير النمط القديم من التعاملات من خلال تقديم حلول أكثر نجاعة وبجودة أعلى ما يتيح الضغط على النفقات عبر توفير 33.2 مليون دولار سنويا.

11