هل يمكن للفرد أن يصوغ حياته بمعزل عما حوله

رواية "دفاتر الورّاق" تعتمد على تقنية التضاد الزمني بحيث يواجه القارئ مشهدا من الزمن الحاضر ومشهدا روائيا من الماضي.
الأربعاء 2020/08/26
أزمة الإنسان العربي بين ذاته والآخرين (لوحة للفنان ضياء العزاوي)

تتناول الرواية العربية المعاصرة مكابدات الإنسان العربي في حياته المشحونة وما يعانيه هذا الإنسان الذي يتشابه من قطر عربي إلى آخر، من أزمات وجودية ونفسية وفكرية وعاطفية وحتى جسدية في بيئة تخنق الحريات الفردية وتكبّل الأفكار وتحطّ من شأن الفرد. وقد نجحت الكثير من الروايات في هذا المنحى من خلال أبطال مختارين بعناية.

تدور أحداث رواية “دفاتر الورّاق”، للروائي والشاعر الأردني جلال برجس حول شخصية ورّاق مثقف منعزل وقارئ نهم للروايات يفقد أسرته وبيته، ويصبح مشرّدا على غرار الفيلسوف “ديوجين”، فتقع له جملة من الأحداث تجعله حديث الشارع العربي في زمن باتت الميديا الاجتماعية الجديدة أهم عناصره.

تكبر حكايات الوراق وتأخذ مسارات غير متوقعة، وتصغر حكايات كان يمكن لها أن تحدث أثرا واضحا، إذ تتبدى عبر هذا الجانب أزمة الإنسان في هذه المرحلة سياسيا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا، وتطفو على السطح مراوحته بين الماضي والحاضر، وكيف يمكن للماضي أن يخلّف آثارا سلبية مثلما يفرز مناطق إيجابية ومضيئة.

مكابدات وأسئلة

يكابد الوراق الكثير من التبدّلات التي طرأت على واقع العاصمة الأردنية عمان، حالها حال الكثير من العواصم العربية في هذا الزمن، فتشير الرواية إلى عمق ردّات الفعل لدى الإنسان حيال المكان والزمان حينما يؤولان إلى صورة مغايرة، وتبرز جملة من الأسئلة التي يطلقها السرد في خضم عالم يتغير بسرعة، ويُمنى بالكثير من السمات الجديدة، مثيرا مكامن يعتقد الكثيرون منّا أنها هامشية.

بعد تحولات غرائبية على شخصية الوراق، وجراء العزلة والوحدة والتشرد، وما واجهه من قسوة في عالم صاخب، تتفاقم حالته النفسية، فيراهن القارئ عبر مسار النص على المحمول المعرفي لدى الشخصية، وما ينوي فعله كخروج على الواقع بكل عناصره.

رواية تستهدف الإنسان وأزمته
رواية تستهدف الإنسان وأزمته

وتكشف الرواية عمّن سينتصر على الآخر بعد صراع مرير، ليس فقط على الصعيد الداخلي، بل مع أكثر من جهة حوله، حيث تتشابك الحكايات مع بعضها بعض لتؤدي إلى مقولة رئيسية في الرواية مفادها أن الخوف حتما سيؤدي إلى الخراب.

كما تستثير الرواية، الصادرة حديثا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، عددا من التساؤلات أهمها: إلى أي مدى يمكن للفرد أن يصوغ حياته بمعزل عما حوله من مؤثرات؟ ومتى يمكن للشخصية الثانية في داخل الإنسان أن تخرج للعلن فيتحول الإنسان إلى وحش؟

وتسرد عبر صفحاتها الـ368، ومن خلال عدد من الدفاتر التي تعثر عليها الشخصيات الساردة، حكايات عن أشخاص يفقد بعضهم بيوتهم، ويعاني بعضهم الآخر من أزمة مجهولي النسب، ويقاسي آخرون عدم انتمائهم إلى عائلات كبيرة، ويكابد آخرون سياط الماضي والشعور بالهزيمة، ويتحمّل عدد منهم مشاق سطوة الفقر والتهميش والإقصاء في عالم بات طبقيا بامتياز، الأمر الذي يلقي الضوء على جانب من التشرد مقابل ما تشهده المدن من ضجيج وصخب كثيرين.

بنية بوليسية

تتناوب فصول الرواية في سرد أحداث يقع بعضها في الماضي، ويقع بعضها الآخر في الوقت الحاضر، بين عامي 1947 و2019، ففي الماضي تقدم صورة واضحة عن عائلة عاشت في بيت الشَعَر، وواجهت جفافا حدث في منطقة الشام عام 1947، وما خلفه عليها حينها من نتائج قاسية في أواخر مرحلة الإقطاع في الأردن. وفي الحاضر يعيش جزء من هذه العائلة في عمّان، حيث النمط الجديد من القسوة في المدن. وتتقاطع مصائر الشخصيات مع بعضها فتبرز قيمة البيت، الذي يرمز للوطن مقابل أكثر من شكل للخراب.

وتعتمد الرواية، من خلال هذا التناوب على تقنية التضاد الزمني، بحيث يواجه القارئ مشهدا من الزمن الحاضر ومشهدا روائيا من الماضي، ويكتشف بعد مضي عدد من الصفحات أن ثمة علاقة بين تلك الشخصيات المتناثرة، وأنها لا بدّ أن تجتمع عند نقطة معينة لتشكل الحدث الرئيس.

الرواية تقوم على بنية بوليسية، تتضافر مع منحى نفسي للأحداث، ليجد القارئ نفسه في بؤرة توتر وتشويق

وتقوم الرواية على بنية بوليسية، تتضافر مع منحى نفسي في صياغة الأحداث، ليجد القارئ نفسه في بؤرة من التوتر والتشويق اللذين يتصاعدان مع مرور الصفحات، ويدفعانه إلى الانهماك في البحث عن إجابات على الكثير من الأسئلة الشائكة، ويكشف السرد شيئا فشيئا عن جوانب معتّمة في الحدث الروائي، لكنها تأخذ القارئ إلى جوانب أخرى بحاجة إلى إضاءة، حتى وهو في أشد لحظات تركيزه، بينما تمرّر الرواية إليه ممّا وراء السرد ثيمة تستهدف الإنسان وأزمته وما يعانيه، لتلفت انتباهه إلى التفكير في واقعه، وما يمكن أن يؤول إليه.

يُذكر أن جلال برجس من مواليد 1970، وقد بدأ تجربته الأدبية بكاتبة الشعر والقصة وأدب المكان قبل أن يتجه إلى كتابة الرواية، وعمل في الصحافة الأردنية عددا من السنين، وترأس بعض الهيئات الثقافية، وهو الآن رئيس مختبر السرديات الأردني، ومُعد ومقدم برنامج إذاعي بعنوان “بيت الرواية”.

صدر له في الشعر “كأي غصن على شجرة”، و”قمر بلا منازل”، وفي القصة مجموعة “الزلازل” الحائزة على جائزة روكس بن زائد العزيزي للإبداع، وفي أدب المكان نشر “شبابيك مادبا تحرس القدس”، وصدرت له في مجال الرواية أربع روايات هي “مقصلة الحالم”، “أفاعي النار”، “سيدات الحواس الخمس”، و”حكايات المقهى العتيق” رواية مشتركة، ونال عن روايته “أفاعي النار” جائزة كتارا للرواية العربية عام 2015، في فئة الرواية غير المنشورة، ووصلت روايته “سيدات الحواس الخمس” إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر” عام 2019.

14