نرجسية الأبناء انعكاس للتربية الأسرية غير السوية

أثارت واقعة إهانة شرطي المرور من قبل طفل لم يتجاوز الـ15 عاما باعتبار أن والده قاضٍ ورئيس لمحكمة سخط المجتمع المصري الذي رأى في إطلاق سراحه دون عقاب تكريسا لغطرسة الأسر النافذة وتعاليها، خصوصا وأن الطفل بث مقطع فيديو على شبكات التواصل الاجتماعي متباهيا بنفوذ أبيه وحصانته وقد جاء فيه على لسانه “نحن من نحبس، ولا يمكن أن نتعرض للحبس”.
القاهرة - ألقت أجهزة الأمن المصرية القبض على الطفل الذي أهان شرطي المرور واعتدى عليه لفظيا صحبة عدد من أصدقائه، بعد ساعات قليلة من إخلاء سبيله، بتهمة التنمّر على المجتمع والسخرية منه وبث مقطع فيديو على شبكات التواصل الاجتماعي للتباهي بنفوذ أبيه وحصانته التي منعت معاقبته قبل يومين.
نجحت الضغوط المجتمعية والإعلامية في إعادة التحقيق بواقعة اعتداء طفل لفظيا على شرطي المرور ومحاولة دهسه بالسيارة، والتحدث معه بطريقة نرجسية، بحكم أنه (أي الطفل) نجل قاضٍ ورئيس لمحكمة في مصر، وتعالت الأصوات الرافضة لقرار إخلاء سبيل المتهمين وطالبت بمحاسبتهم على غطرستهم.
وتسبب مقطع فيديو الذي جرى تصويره من جانب أصدقاء الطفل أثناء طلب شرطيّ المرور رخصة السيارة، في موجة غضب عارمة بين كثير من أفراد الأسر في مصر، وارتفع منسوب التذمر مع قرار إخلاء سبيلهم، وتصويرهم لفيديو استعرضوا فيه نفوذ عائلاتهم، وقد جاء فيه على ألسنتهم “نحن من نحبس، ولا يمكن أن نتعرض للحبس”.
وبرر متذمّرون تصعيد احتجاجهم بأن الطفل وأصدقاءه تعمدوا السخرية من الفئات الأسرية الأقل مكانة اجتماعية، واحتموا بحصانات أبوية جعلت الأبناء يصابون بالنرجسية والاستقواء على الآخرين، والشعور بأنهم سلطة فوق القانون، وبإمكانهم ارتكاب جرائم دون محاسبة، ما يشكّل خطرا على الأمن المجتمعي.
وأمام تصاعد الغضب دخلت جهات مختلفة على خط الأزمة، وطالبت أرباب العائلات بتربية أبنائهم على احترام الآخر، والتركيز على القيم النبيلة بدلا من زرع أفكار خطيرة في أذهانهم، في إشارة إلى الاستقواء بمنصب الآباء، وأن الآباء يتحملون سلوك الأبناء، ولم تعد التربية رفاهية بل فرض عين.
واستدعت وزارة العدل، المستشار والد الطفل للتحقيق معه واستجوابه، وقد تصدر ضده عقوبات بسحب صفة القاضي منه، لأن هناك ضغوطا مجتمعية بحتمية محاسبته على سوء تربية ابنه وعدم تقويم سلوكه، ما يعني أنه غير جدير بالفصل بين الناس بشكل عادل باعتبار أنه قاض.
ما صبّ الزيت على النار أن نادي القضاة، الذي يمثل مستشاري الهيئات القضائية المصرية، أصدر بيانا صحافيا، الأحد، دعا فيه المواطنين للفصل بين واقعة اعتداء الطفل على رجل المرور ومنصب والده، ما اعتبره كثيرون مقدمة لتبرئة الأب من تربية ابنه على الاستعلاء والغرور وتحصينه من العقوبة عند الخطأ.
ورأى متخصّصون في القضايا الأسرية أن نرجسية الأبناء انعكاس واضح لغطرسة أبوية وتربية خاطئة، خوّلت لهم أن يعتبروا أنفسهم فوق القانون والمحاسبة بالاحتماء في حصانات الآباء ونفوذهم، بحكم تنشئتهم على أفكار تحتقر الفئات الاجتماعية الأقل نفوذا.
وأشار المختصون إلى أن الأبناء يتصرفون في حياتهم العادية ويتعاملون مع الآخرين بطريقة أقرب إلى آبائهم، أو بنمط التربية الذي تربّوا عليه، ومشكلة بعض الأسر ذات النفوذ المالي والوظيفي أنها تعتبر الحصانة بديلة عن التربية السليمة.
وعندما تحدثت بعض وسائل الإعلام عن القضية لم تبادر أسرة الطفل بالاعتذار عن تصرّف الابن، وتمادت في الدفاع عنه بذريعة أنه مراهق، ما اعتبره كثيرون تحريضا غير مباشر لكل الأطفال من نفس السن ليرتكبوا أخطاء مماثلة.
وجاء قرار إعادة القبض على الطفل ليكون صحبة زملائه عبرة لغيرهم، وللعائلات التي تربّي أولادها على الاستقواء والاحتماء في حصانة الأب، وإيصال رسالة مفادها أن النفوذ الأسري لا يبرر ارتكاب الأبناء لجرائم ترفضها الأغلبية، لأنها مقدمة لصناعة جيل متمرد تصعب السيطرة عليه في المستقبل.
وأكد جمال فرويز، استشاري الطب النفسي، أن التدليل الأسري المبالغ فيه يؤسس لأبناء متغطرسين، خاصة إذا كان آباؤهم من أصحاب النفوذ، والمعضلة الأكبر عندما يتم استغلاله من أصدقاء السوء للتضخيم من شأنهم ووضعهم الاجتماعي، فتراهم يرتكبون جرائم بهدف الدفاع عن العظمة والشموخ، ولو كان ذلك على حساب أسر أخرى.
وأضاف لـ”العرب” أن أيّ طفل متنمّر ضد الفئات الأقل ضحية تربية أسرية زرعت بداخله أفكارا بغيضة وتجاهلت تقويم سلوكه العدواني منذ الصغر. والخطير أن يتم التأخر في إعادة تصحيح أفكاره بشكل سريع، لأنه عندما يكبر في السن سوف يتحول إلى شخصية عدوانية تتلذذ بتعذيب الآخرين وإيذائهم.
وأعادت الواقعة إلى الأذهان حتمية تغيير قانون الطفل وفرض عقوبات صارمة على الأطفال المتجاوزين، وعدم استسهال تبرئتهم بذريعة أنهم من حديثي السن، لأن تنمر الصغار من الآخرين والسخرية منهم يحرّض غيرهم على ارتكاب نفس الأفعال وهم مطمئنون من عدم المحاسبة.
وعكست واقعة الطفل وسلوكه مع شرطي المرور أن هناك خللا واضحا في طريقة تقويم سلوك الأبناء المتورطين في ارتكاب جرائم التنمر والاستقواء بأسرهم، لأنه في كل مرة تتم تبرئتهم من التهمة بعد القبض عليهم، ويتعهد الآباء بحسن تربيتهم وإعادة تأهيلهم نفسيا.
وتعهد والد الطفل، الذي قام بإهانة الشرطي، أمام النيابة العامة بتقويم سلوك ابنه الذي لم يتجاوز 15 عاما، وكان ذلك مبررا للإفراج عنه دون شروط، وبعد ساعات قام برفقة أصدقائه بتصوير مقطع فيديو أكثر سخرية وعنجهية يسخر فيه من دعوات حبسه ومحاسبته، وتعمّد سب الناس وقذفهم بألفاظ جارحة.
وقال عادل بركات الباحث، والمتخصص في شؤون التربية الأسرية، إن قوانين الطفل في مصر بحاجة ماسة إلى مجاراة الواقع، فلا يمكن ائتمان عائلة زرعت في عقول أبنائها أنهم فوق القانون أن تعيد تقويم سلوكياتهم استجابة لرغبة القضاء. بل يجب أن يكون ذلك من خلال جهات متخصصة ومستقلة كعقوبة يتم توقيعها على الأطفال ويتم وضعهم في مؤسسات تناسب أعمارهم لفترة بعينها، وإعادة تأهيلهم نفسيا لكيفية تقبل الآخر واحترامه، وعلاجهم أسريا.
وأوضح لـ”العرب” أن تبرئة أرباب الأسر من السلوكيات الخاطئة لأبنائهم دفع أغلب العائلات إلى إهمال التربية الصحيحة، مشيرا إلى أنه لو كانت هناك عقوبات على الآباء لما استسهلوا ارتكاب أولادهم تصرفات سلوكية وأخلاقية مخلة.
ومع استمرار رفض المنظمات الحقوقية تغليظ العقوبة على الصغار المتجاوزين يجب توجيه الحساب إلى وليّ الأمر كوسيلة ضغط على الأهالي لتركيز جهودهم في تربية أبنائهم تربية سليمة، لأن التساهل في خطأ صغير يغذّي لدى أقرانه، من نفس الجيل، ارتكاب أفعال مماثلة.
وإذا كان الطفل صاحب الواقعة وأصدقاؤه عادوا مجددا إلى النيابة العامة، فذلك يعكس حقيقة هامة مفادها أن الأغلبية الأسرية ضد السلوك الخاطئ في التربية لأن هؤلاء ضغطوا على الحكومة لكسر شوكة الفئة التي ترى نفسها وأبناءها فوق المحاسبة، ما يعني أن الرقابة العائلية على السلوكيات لبعض الأفراد داخل الأسرة حائط صد منيع أمام فرض شريحة بعينها لنمط تربية يؤسس لجيل من النرجسيين والسيكوباتيين.