من الطاعون إلى كورونا.. كيف تغيّرت صورة الوباء؟

يعيش العالم اليوم في رعب شديد من وباء كورونا المستجد، ومن قبله كانت هناك مخاوف من انتشار أوبئة مشابهة مثل سارس وإيبولا، وغيرهما من الأوبئة الأخرى التي ظهرت خلال العقد الأخير تحديدا. ومن المنتظر أن يتناول التشكيليون هذا الفايروس المستجد في أعمالهم قريبا، على غرار ما أتاه فنانو عصر النهضة، في تناولهم لصور الأوبئة، الطاعون خاصة.
بتنا اليوم نلاحظ بشكل مباشر مشاعر الخوف ومظاهر الاستعداد لاستفحال الوباء المستجد “كوفيد – 19” في كل دول العالم، نُشاهد ذلك عبر وسائل الإعلام التي تسجل الصورة بوضوح وتنقلها إلينا في أي مكان. ونطالع عن كثب عبر وسائل التواصل الاجتماعي قلق الناس والحكومات من انتشار هذا الوباء. تسجل الصور التي نطالعها كل التفاصيل المتعلقة بوباء كورونا يوما بيوم ولحظة بلحظة.
هو أمر جيد بالطبع، يُساهم في الحد من خطورة الوباء والتوعية من أجل الوقاية منه، ولكن ماذا كان يفعل الناس قبل هذا التطوّر في وسائل التواصل والاتصال، أو حتى قبل ظهور الفوتوغرافيا؟
من السرد إلى الرسم
نعرف جيدا أن البشرية قد عرفت أنواعا مختلفة من الأوبئة عبر العصور، قبل هذا التطوّر الكبير في التكنولوجيا، حينها لم تكن هناك وسيلة بصرية لتسجيل الأحداث سوى الرسم، فخلافا للسرديات المكتوبة التي تناولت هذه الأوبئة، كانت الصورة المرسومة حاضرة بقوة، ومعبّرة عن الفاجعة، وهي وسيلتنا البصرية الوحيدة للتعرّف على ملامح المعاناة التي كان يكابدها الناس في تلك العصور، ووسائلهم البسيطة في مواجهة الأوبئة. فكيف بدت هذه الصور والرسوم؟ وهل عبّرت حقا عن تلك الأوبئة تعبيرا صادقا؟
في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي، وتحديدا في العام 1347 اجتاح وباء الطاعون جزيرة صقلية في البحر المتوسط، ومنها انتقل إلى أوروبا، وخلال سنوات قليلة قضى هذا الوباء القاتل على عدد كبير من الناس، حتى قيل إنه أباد ثلث سكان القارة.
كان الأمر مُروّعا، فقد انتشر الموت في كل مكان، واجتاح الخوف أوروبا بأكملها، وعمّ البلاء سائر المدن، ونتيجة لهول تلك الأيام أطلق الناس على هذا الوباء اسم “الموت الأسود”، وهي التسمية التي ظلت متداولة في الأدبيات الغربية طويلا لوصف وباء الطاعون. هدّد هذا الوباء القارة الأوروبية لعقود طويلة، إذ استمر ظهوره على
فترات متقطعة حتى نهاية القرن السابع عشر.
في العديد من اللوحات التي تعود إلى القرون الوسطى تكرّرت الرسوم التي تصوّر جثث الموتى وهي تُنقل في عربات تجرّها الخيول
اللافت هنا، أن هذه السنوات التي اجتاح فيها الطاعون القارة الأوروبية قد واكبت البداية الفعلية لعصر النهضة، ما يعني أن عددا كبيرا من رواد الفن المرموقين قد عاشوا سنوات عمرهم كاملة تحت تهديد هذا الوباء القاتل كالمصوّر الإيطالي الشهير مايكل أنجلو، وكذلك رمبرانت، وغيرهم من فناني عصر النهضة. وهناك فنانون قضوا نحبهم بسبب الطاعون مثل تيتيان وهانز هولبين.
ومن المدهش هنا أن الأعمال الفنية التي صوّرت لنا هذا الوباء قد اتسمت بالندرة الشديدة، وما وصلنا منها يتّسم بعدم المباشرة، فلا يقدّم لنا صورة واضحة مثلا عن السمات الظاهرية للمعاناة التي ألّمت بالناس أو المرضى.
وخلافا لهذا، فإن معظم الأعمال الفنية العظيمة والإنشاءات المعمارية الرائعة في أوروبا قد تمّ إنجازها خلال تلك الفترة، وكأنها كانت رغبة ملحة لتجاوز هذا الرعب وعدم الاستسلام له، أو الاحتفاء بالحياة في مواجهة الموت.
من اللافت أيضا، أن معظم الأعمال الفنية التي يتم التعامل معها اليوم كتسجيل لوباء الطاعون الذي اجتاح أوروبا تعود في الأغلب إلى أوبئة أخرى كالجدري والجذام وغيرهما من الأمراض والأوبئة الأخرى، وهي معظمها رسوم أقرب إلى الرسوم الدينية، فالنظرة السائدة إلى هذه الأوبئة في تلك الفترات كانت مرتبطة بالدين إلى حد كبير، إذ تم التعامل معها كلعنة أو كعقاب من السماء.
بين السماء والأرض
كان من المُعتاد في الأعمال الفنية التي تناولت مثل هذه الموضوعات إسباغ الطابع الديني عليها، كأن تكون مُستلهمة مثلا من الكتاب المقدس، أو تضمينها جانبا دينيا بإحلال صور الملائكة والقديسين وهم يحيطون بالموتى أو يباركون أجسادهم.
ظهرت أيضا العديد من الرسوم التي تحتفي بالموت كرسول من السماء، فكان يُصوّر عادة على هيئة هياكل عظمية أو رجل ذي ملامح مخيفة. فملك الموت يتجسّد على نحو مخيف مثلا في عمل لأحد الفنانين الفرنسيين، وهو إيلي دوليناي من القرن الثامن عشر في لوحة بعنوان “وباء روما”، حيث يظهر ملك الموت في هيئة رجل مخيف يقوده ملاك مجنّح لاقتحام أحد البيوت من أجل حصد أرواح من فيها، بينما تتناثر جثث الموتى في الجوار، ويئن المرضى تحت وطأة الألم.
الفنان الإسباني خوسيه لفرنكس له لوحة أخرى يصوّر فيها عمليات دفن الموتى في مقابر جماعية، وهو الأمر الذي كان سائدا في أوروبا خلال فترات الوباء. وفي اللوحة، وبينما تجري مراسم الدفن في الأسفل، رسم الفنان ملاكا في أعلى اللوحة يُبارك روح المتوفى الصاعدة إليه لتوها.
في العديد من اللوحات التي تعود للقرون الوسطى تكرّرت الصور والرسوم التي تصوّر جثث الموتى وهي تُنقل في عربات تجرّها الخيول، ظهرت كذلك العديد من اللوحات والرسومات التي تصوّر أشخاصا في طور المرض، مع نتوء بارز على أجسادهم، وهو العرض الذي ميز وباء الطاعون، والمعروف عنه أنه يتركّز داخل حويصلة تحت الجلد.
كان الفنان الفلامنكي فان دايك واحدا من الفنانين القلائل المعروفين الذين تناولوا وباء الطاعون في أعمالهم، ففي عشرينات القرن السادس عشر واكب زيارة الفنان لمدينة باليرمو الإيطالية اجتياح وباء الطاعون لها، وظلت المدينة مغلقة لشهور على سكانها.
رسم فان دايك مجموعة من اللوحات تصوّر القديسة روزاليا، وتُعرض أحدها في متحف متروبوليتان حاليا. لا تجسّد اللوحات المذكورة مظاهر الرعب التي عاشتها المدينة وسكانها خلال هذه الفترة، بقدر ما تشير بعين التبجيل إلى القديسة روزاليا، وهي إحدى القديسات الشهيرات في مدينة باليرمو، والتي تصادف العثور على رفاتها بينما كان الوباء ينسحب من المدينة.
رسم الفنان صورة القديسة وهي تبارك أرواح الضحايا، وتشفع لهم، بينما تحيط بها الملائكة، ورسمها في لوحة أخرى وهي تشير إلى مجموعة من الجماجم البشرية الملقاة على الأرض في الوقت الذي تنظر فيه إلى السماء، كنوع من التضرّع طلبا للعناية الإلهية.
خلافا للمصوّر الفلامنكي فان دايك، فإن معظم الأعمال التي تناولت الوباء في أوروبا تعود في أغلبها إلى رسامين وفنانين غير مشهورين بالدرجة الكافية، وربما يكونون مجهولين أيضا، وبعض الرسوم التي تعود إلى تلك الفترة توجد ضمن مجموعات فنية لدى مكتبات أو كنائس في أوروبا والولايات المتحدة.
لم تكن هناك أسماء كبيرة تعرّضت لوباء الطاعون على نحو مباشر، لكنه بلا شك ساهم في إضفاء طابع سوداوي على معظم الأعمال المنتجة في تلك الفترة، كما كان لهذه المحنة الطويلة التي ألّمت بالقارة الأوروبية دور كبير في تطوّر مفهوم المشهد عند بعض الفنانين الذين تمرّدوا على الطابع الديني السائد، وقتها، في أعمال المصوّرين خلال الفترة المبكّرة من عصر النهضة. فلجأ البعض منهم إلى استلهام العديد من الموضوعات المختلفة التي اتسمت بطابع واقعي، تم تطويره فيما بعد والبناء عليه خلال العصور اللاحقة.