منابر الإبداع الموازية: تحرر أو افتعال للغرابة؟

تُتّهم القصيدة المعاصرة بركونها إلى الاطمئنان وغزلها على منوال السابقين والسقوط في فخاخ المجانية والاعتيادية في تناول العابر واليومي والتفاصيل المألوفة على نحو استسهالي ومذكراتي. وهذا ما دفع البعض إلى محاولة تحريك المياه الراكدة في المشهد الشعري العربي من خلال تأسيس منابر موازية للنشر. لكن هل نجحت هذه المنابر في ذلك؟
انتشرت الكثير من المنابر الموازية، ورقية وإلكترونية، لنشر الشعر، كما تأسست جماعات أدبية وفيسبوكية ترفع شعار التحرر واللانمطية، وتحمل أحيانا أسماء غرائبية.
فهل تقف هذه الكيانات المثيرة عند حد الفرقعة ولفت الأنظار، أم أنها تسهم فعليّا في إثراء القصيدة، وفتحها على الصور المدهشة والفنون الحركية والأدائية؟
ما لا يُؤخذ كاملا، لا يُرفض كاملا. درس يمكن استيعابه من تجربة شعراء التسعينات بمصر الذين التفّ الكثيرون منهم حول مجلة أدبية بعنوان “الجراد”، لقيت آنذاك انتقادات عنيفة بسبب أفكارها التي جرى تفسيرها بأنها دعوة إلى القضاء على الأخضر واليابس، وقتل معاني الأبوّة بالقطيعة مع الموروث.
ومع مرور الوقت، أسفرت الحركة عن بعض الأسماء القليلة الراسخة التي حققت خصوصيتها الشعرية وسط موجة الضجيج، كما تم الخلاص من التعميمات الفجة إلى رؤى فردية عميقة، انتصرت للصوت الهامس وخلصت القصيدة المجازية التي كانت سائدة منذ السبعينات من زخارفها وبهارجها وبيانها وموسيقاها الطنّانة.
وعلى النحو ذاته، وبشكل أكثر صخبا بسبب مواقع الإنترنت وصفحاتها، ظهرت خلال الفترة الماضية “غروبات” وجماعات وتيارات إبداعية مصرية وعربية متعددة احتضنت تجارب الشباب أملا في نبض جديد خارج الأنساق التقليدية والمؤسسة الرسمية.
ومن هذه الكيانات “مجانين قصيدة النثر”، “ميليشيا الثقافة”، “نصوص على كوكب المريخ”، “طروادة نون النسوة”، “أنا الآخر”، “بيت النص”، “ملائكة السافانا” وغيرها، لكل منها رهاناته ومقترحاته لتطوير الإبداع ومواكبة العصر وإطلاق صرخة تبدأ كما يبدو من العنوان الصادم، لكن المهمّ هو أن تمتد هذه الصرخة بعيدا، وألا تكون لكل جماعة أو شلّة سلطة بديلة تحكم تدفقها وسيولتها، لأنها يُفترض أنها جماعات نشأت للتمرد على مفهوم السلطة.
تمرّد أم تحكّم؟
تشترك منابر الإبداع الموازية جميعا في رفع شعار الانفلات من سائر القيود، وتكاد تتفق على “كتابة قصيدة لا حدود لها، متمردة على الأنساق، تبحث عن ذاتها وشاعريتها، تنتصر للجمال؛ ولا غير”، وفق مانفستو صفحة “مجانين قصيدة النثر” التي يديرها الشاعر محمد نصر.
على أن تجاوز الجنون الذي يحمله العنوان، والمضي قدما في استكشاف نصوص المجموعة وبياناتها التأسيسية يذهب بالقارئ إلى ما هو معروف بالضرورة من مقوّمات قصيدة النثر المطروحة على الساحة المصرية والعربية من سنوات بعيدة، وهي تنظيرات باتت مشاعة بحديثها المكرور المستنسخ عن التأصيل لنصّ ذي شعرية مختلفة، يعنى بالتسريد وبالانزياحات اللغوية وبناء صور مشهدية تكتمل أجزاؤها على مدى النص، وبالتقاط التفاصيل والجزئيات من اليومي أو من الطبيعة لجعلها منفذا جماليّا لمعالجة الفكرة وإبلاغها إلى المتلقّي بأسلوب يخاتل أفق انتظاره، ما يحقق الدهشة لديه.
ومن النصوص التي اتسعت لها مجموعة “مجانين قصيدة النثر”، ولا تتضح فيها أي قفزة جنونية خارج مدارات قصيدة النثر المطروقة، نص “سمت الرماد” للسودانية – البريطانية نوال الشيخ وفيه تقول “الأشواقُ طفلٌ مشاغب يأبى أن ينام/ الحنين يعلوني كل مساء فأصبح خائرة البوح/ اليوم رتيب جدّا/ كسلحفاة مسنة يمضي”.
بعيدا عن التقييم الجمالي والفني المجرد فإن الترويج الواسع للنصوص الشعرية يُعزى للمنابر البديلة والجماعات الافتراضية
ونص آخر للعراقية ندى حسان، وهو مليء بالهنات الإملائية، وفيه تقول “تقبلني على ما أنا عليه/ امرأة تعزف على وترين نافرين/ لها في كل فجر كأس خطيئة بشفتين/ كزوجة حوذي ينفق صحته في غرس الموتى/ تعرفني الظلمة جيدا/ لذلك لن أستعير ضحكة تغريك”.
ومن صفحة “نصوص على كوكب المريخ”، محتوى للتونسية مروى بديدة، فيه تقول “ثمة خيط من السماء يربطني بالشعر/ قوس قزح يحضر ويغيب/ ضوء يبهج بصري وقد يعميني/ كائن يبالغ في العاطفة والجبروت معا/ أحبه وأخافه وأهجره”.
وتدافع الشاعرة الجزائرية سوسن محمود نوري مسؤولة “مجانين قصيدة النثر” عن تجربة المجانين، مؤكدة لـ”العرب” أنّ لكلّ عنوان دلالة لاختياره، بعيدا عن الاسم الفقاعة أو السراب الذي يحسبه الظمآن ماء. ومن ثم، فإن عنوان “مجانين قصيدة النثر” له معنى يمثّل شعاره، وهو الخروج عن أنماط السلوك الاعتيادي السائدة في القصيدة، وإطلاق أقصى قدرات الإبداع، بتجاوز الحدود المسطّرة، وفكّ القيود الاجتماعية، الدينية والفكرية، التي كبّلتها طويلا.
وترى أن نتاج المجانين يشهد بالتطوّر في النصوص التي تُنحت تلقائيّا وفق المكتسبات المشرّبة، سواء كانت نظرية من المقالات أو فنيّة من القصائد المنشورة، بالإضافة إلى انفتاحها على الآخر، وتحفيز حاسة التذوّق لكلّ ما هو جميل، على اختلاف الكتابة وطرقها من شاعر إلى آخر.
والكلمة دائما للنص وحده، بعيدا عن اسم صاحبه (نبذ فكرة المجاملات)، واحترام التخصّص مطلوب دون الخوض في معارك مع بقية التخصصات، لأنّ الأدب بطبعه متجاور، فلا عدد لأوجه الإبداع والجمال.
ويختلف الشاعر العراقي عامر الطيب مع هذا الطرح، موضحا لـ”العرب” بعد تجربة شخصية له في الاشتراك في إدارة عدد من هذه الصفحات والغروبات الشعرية أنها للأسف تدار غالبا بالعقلية المؤسساتية ذاتها السائدة في الواقع، من حيث المحاباة وفرض الرؤية الواحدة، أو إتاحة المجال بطريقة فوضوية لنشر جميع الكتابات، وتوزيع الشهادات والألقاب.
ولا ريب أن الغروبات مثلها مثل الجوائز والمنصات الإعلامية، لا تصنع نصّا ولا شاعرا، لكنها تسهم في ترسيخ أسماء معينة أو بتعليم الشاعر مهارة ما أو تعرفه على مصادر معرفية أو أصدقاء جدد، وما يُحسب لها وفق الطيب هدمها الفجوة بين البلدان، وتجميع الشعراء في منطقة واحدة.
ويرى أن مؤسسيها يختارون مسمّيات صادمة، محاولين من خلالها إثارة الانتباه فقط، ولا يسعون بشكل جدي لنشر نصوص تنطبق عليها سمات معينة تخدم التسمية التي يعتبرونها رؤية خاصة.
ويبقى الشعر هو ذلك المفهوم الفطري الذي لا يمكن ترويضه، فهو مرادف للبرق الذي يلمع لكنه سرعان ما يختفي، وبممارسته ذلك الالتماع والاختفاء بسرعة يكتسب تلك الخاصية العصية على التنميط.
فرص الانتشار

بعيدا عن التقييم الجمالي والفني المجرد، فإنه يُعزى للمنابر البديلة والجماعات الافتراضية الترويج الواسع للنصوص الشعرية التي يكتبها الشعراء الشباب، وتوصيلها إلى الآلاف من المتابعين عبر مواقع الإنترنت وصفحات السوشيال ميديا والغروبات التخصصية التي تنشر الشعر.
هذا الترويج، وإن كان يحمل معنى كمّيّا فقط، تثمّنه الشاعرة المصرية سمر لاشين، موضحة لـ”العرب” أنه قبل المنصات الإبداعيّة الافتراضيّة، كانت فرص الانتشار ضعيفة جدّا للكاتب الذي لا يملك وسيلة تُعرّف به، وليست له علاقات مع الوسط الثقافي، ولا يملك رفاهية حضور أمسيات أو ندوات ثقافيّة، فالإبداع لهؤلاء كان ضمن حيزهم الضيق جدّا والمحدود، الذي قد يكون أحيانا جمهوره شخص واحد فقط، هو المبدع وحده.
وبعد عملها في مجموعة “الكتاب السوريين والعرب الأحرار”، نقلت لاشين خبرتها في إدارة الغروبات إلى المعاونة في مجموعة “مجانين قصيدة النثر”، وتأسيس مجموعة “طروادة نون النسوة” التي تهدف إلى دعم الكاتبات في الوطن العربي والتعريف بهن، كذلك مبادرة “أثر الفراشة”، ومن ضمن أنشطتها الاحتفاء بالكاتب لمدة أسبوع بنشر نصوصه وعمل فيديوهات وحوارات وبث مباشر معه.
وبحسب الشاعرة المصرية، فإن هذه المنابر الموازية بمثابة جنّيّ، خرج من فانوسه السحري، ليمنح المبدعين “الغلابة” قاعدة جماهيرية عريضة ومتنوعة ومجانيّة وواسعة الانتشار، حيث إنها تعطي فرصا متساوية للجميع، ويتوقف النجاح على مدى الابتكار وأصالة الأفكار المغايرة وقدرة المبدعين على لفت الانتباه إليهم وتشجيع المتلقي على متابعتهم.
وتفسّر الشاعرة التونسية حسناء الجلاصي لجوء بعض الصفحات والجماعات إلى أسماء مثيرة وغرائبية بأن معظم الأسماء الاعتيادية قد انتكهت، لذلك حرصت بعض المنصات على انتقاء عناوين براقة تستوعب المزيد من الدلالات والرؤى والتصورات الجديدة للعالم الإبداعي وبناء الشكل الأدبي المميز وإعادة إحياء اللغة الأم الزاخرة بالمعاني والإشارات والإحالات.
وترفض الجلاصي مبدأ التعميم، مؤكدة أن الأدب في ظل العصر الرقمي يدور في الفلك ذاته متذبذبا بين الرفيع والمتدني، والسمين والغث، وهذا الخلط المؤسف آفة تشوب بعض المنصات الرقمية، في حين توجد صفحات وغروبات أكثر حرصا على انتقاء نصوص ذات أبعاد فكرية وفنية رصينة، وهنا نعود إلى مأزق الإدارة من جديد.
الطبيعة الحركية
يبقى جانب مهمّ أسهمت بعض الجماعات الإبداعية غير النمطية في تطويره بشأن القصيدة الجديدة، هو فتح آفاقها على الموسيقى والتمثيل والغناء وسائر الفنون الحركية والأدائية، وفي هذا السياق تأسست جماعة “ميليشيا الثقافة” في العراق، وتحرص الجماعة ذات العنوان الغريب على أداء قصائدها في عروض حية ميدانية، وسط الأسلاك الشائكة والألغام ومستودعات القمامة ومناطق الخطر والقبح والدمار والخراب.
ويوضح العراقي مازن المعموري أحد شعراء الميليشا لـ”العرب” أن هذه الصيحة المغايرة في تقديم النصوص ليست مجرد إثارة شكلية، وإنما هي وسيلة لتحقيق التفاعلية والاندماج مع الحدث واجتذاب المتلقي ليشارك الشاعر الحالة، إلى جانب العمل على تثوير الوعي، والتعاطي مع الآخر، ولفت الانتباه إلى مآسي العراق ومعاناة شعبه.
وتسعى القصيدة تحت مظلة “ميليشيا الثقافة” إلى تجاوز حضورها ككلمات مكتوبة ومطبوعة، لتصير عرضا يتسع للوقائع والاشتعالات، ويصدّر الشاعر فيه جسده وروحه محدثا مجموعة من الصدمات على مستوى اللغة والخطاب والأسلوب والأداء.