مكتبات لا متناهية

مكتبة الكونغرس الأميركية حققت في أرض الواقع ما نسجته قصة "مكتبة بابل" من باب الخيال.
السبت 2019/12/14
بورخيس ترك مكتبته خالدة

لم يكن غريبا أن يكتب خورخي لويس بورخيس نصه القصصي المذهل “مكتبة بابل”، الذي يتخيل فيه مكتبة ضخمة، تتكون من عدد لا ينتهي من الكتب المكونة من نفس الأحجام وعدد الحروف التي لا يمكن قراءتها. فالرجل تسبقه قدرته الخارقة على التخيل. كما أنه كان يتحمل حينها مسؤولية تدبير مكتبة بلدية مدينة بوينوس أيروس، قبل أن يتم تعيينه، خلال خمسينات القرن الماضي، مديرا للمكتبة الوطنية الأرجنتينية، وهي الأكبر والأهم على مستوى البلد، والتي يعود تأسيسها إلى بداية القرن التاسع عشر. وسيكون خورخي لويس بورخيس وراء تأسيس البناية الجديدة والجميلة التي تحتضن المكتبة حاليا.  

وإذا كنا لا نعرف الكثير عما فعله خورخي لويس بورخيس على مستوى التدبير  اليومي لهذه المكتبة الكبرى، فالأكيد أنه، بقدرته على التخيل والإبداع، كان ربما أفضل من كثير من ذوي الأعين المبصرة الذين يسيرون مكتباتنا.

وأكثر من ذلك، ظل اسم بورخيس لصيقا بالمكتبة الوطنية حتى بعد خمسة عقود على مغادرته لها. وهو الحظ الذي لم ينله العديد من الكُتاب الذين توالوا على مستوى إدارة هذه المكتبة، ومنهم على سبيل المثال الكاتب ألبرتو مانغويل، المعروف بكتابه الهام “تاريخ القراءة”، والذي لم يسلك من النيران غير الصديقة التي أطلقها عالم الاجتماع والمدير الأسبق للمكتبة، هوراسيو غونزاليس. إذ كان هذا الأخير، وراء العريضة الدولية، التي كان على رأس الموقعين عليها جون ماكسويل كويتزي، الحاصل على جائزة نوبل، والتي تتهم ألبرتو مانغويل بتدمير المكتبة، من خلال اتخاذه لقرار الاستغناء عن مئتي مستخدم. وذلك قبل أن تقرر وزارة الثقافة الأرجنتينية القطع مع الكُتاب والأدباء وصراعاتهم لتضع على رأس المكتبة الوطنية سيدة جاءت من مجال مهنة المكتبات.

أما قصة “مكتبة بابل”، التي كتبها بورخيس في بداية أربعينات القرن الماضي، وبرغم حجمها الصغير، فهي من النصوص التي تستطيع أن تخترق الآلاف من العناوين المتراكمة لتمتلك أكثر من حياة، وأن تبني فكرة بدون القطع مع غيرها.

فالنص، كما يُقر بورخيس نفسه، كُتب في ضوء نص آخر سابق يحمل توقيع الكاتب الألماني كورد لسويتز. ويتعلق الأمر بقصة “المكتبة الكونية”، التي تقوم حكايتها على حوار مفترض بين ناشر وكاتب، بخصوص إمكانية إنشاء مكتبة يمكنها أن تتوفر على الكتب، وهي مكتبة يقتضي السفرُ بين رفوفها سنتين بسرعة الضوء !.

ولم تكن كتابة القصتين، “مكتبة بابل” و”المكتبة الكونية”، بعيدة عن سياق أعم يهم المكتبة، باعتبارها فضاء للقراءة، مع ما تحمله أيضا من سحرها الخاص المنبعث من ورق المخطوطات ومن عبق الكتابة.

ويمكن، في هذا الإطار، استحضارُ مكونين أساسين لهذا السياق.  إذ كان رجلان آخران، وهما الباحثان البلجيكيان بُول أوطليت وهِنري لافونتين، منشغلين، قبل عقد فقط على كتابة نص “المكتبة الكونية”، بمشروع ضخم يرمي إلى حصر ما صدَر من الكتب على مستوى دول العالم منذ ظهور الطباعة. وقد انتهيا إلى ضبط ما يناهز سبعة عشر مليون عنوان. غير أن الرجلين لم يتمكنا من الذهاب أبعد من ذلك، حيث تخليا عن المشروع.

وقبل سبعة قرون على ذلك، كان ابن النديم  قد منح للمكتبة الكونية فهرسه الهام، الذي يُعرف باسمه، حيث عمل على حصر جانب من كتب جميع الشعوب العربية والأجنبية المكتوبة أو المترجمة إلى اللغة العربية، في مختلف المجالات الأدبية والعلمية.

وسيكون هذا التراكم، الذي كان قد أطلقه ابن النديم وأسهم فيه رجالات أمضوا حياتهم في تتبع المخطوطات وما يصدر عن المطابع، هو الأساس الذي ستنطلق منه منظمة اليونسكو، ابتداء من سبعينات القرن الماضي، لإطلاق مشروع أكبر، يُعرف بنظام الضبط الببليوغرافي الكوني، وهو المشروع الذي يقوم على تولي المكتبات الوطنية مهمة الحصر البيبليوغرافي لإنتاج بلدانها.

أما المكون الثاني لسياق كتابة قصتي”مكتبة بابل” و”المكتبة الكونية” فيرتبط أساسا بالاشتغال على تصنيفات المعرفة البشرية بهدف تيسير ترتيب الملايين من الكتب التي تجتاح فضاءات المكتبات. إذ كان المكتبي الأميركي مليفيل ديوي قد بلور تصنيفه العشري المذهل، الذي يُقسم المعرفة البشرية إلى “عشرة أقسام رئيسية، مع تفرع كل واحد منها إلى عشرة شعب تمثل التفريعات الرئيسية للموضوع”. كما أن كل شعبة تتفرع بدورها إلى عشرة شعب حسب طبيعة الموضوع، وذلك بشكل يمنح لهذا التصنيف إمكانية استيعاب المعرفة بمختلف فروعها.

سنوات بعد ذلك، سيقترح عالم مكتبات هندي، وهو شيليا رمامريتا رانغنَتان، طعما آخر وأفقا مغايرا للتصنيفات المعرفية، حيث سيطلق تصنفيه الذي يقوم على  تمثل مواضيع الكتب والوثائق عبر المعايير الخمسة المتجلية في الشخصية والمادة والطاقة والمكان والزمن.

أما المدهش فهو أن خورخي لويس بورخيس لن يظل بعيدا عن هذه الاجتهادات العلمية الخاصة بالتصنيفات، على الأقل انطلاقا من زاوية نصوصه الأدبية المذهلة. إذ سيعود في كتابه “اللغة التحليلية لجون ويلكنيس” إلى انتقاد النظرة الغربية الاختزالية التي تقود عددا من التصنيفات المعرفية. ذلك لأنه في الوقت الذي يتم تخصيص فروع متعددة لكل من البابا والكنيسة الكاثوليكية ويوم الرب والبوذية والطاوية، يتم الاكتفاء في كثير من الحالات بقسم واحد يجمع ما لا يمكن جمعه، ومن ذلك مواضيع حماية الحيوان والمبارزة والانتحار والاختلافات والعيوب والفضائل والصفات المتنوعة. لن تنتهي حكاية نص “مكتبة بابل” هنا.  إذ سيعود كاتب شاب أميركي، وهو جونتان باسيل، إلى منح حياة أخرى للمكتبة، عبر موقعه الإلكتروني الذي  يحمل نفس الاسم، والذي  يقترح، انطلاقا من خوارزمية، كل الكتب، بما فيها التي لم تُكتب بعد. بعد سبعين سنة على صدور قصة “مكتبة بابل”، يبدو أن مكتبة الكونغرس الأميركية قد حققت في أرض الواقع ما نسجته القصة من باب الخيال. إذ يتجاوز عدد وثائق المكتبة المئتي مليون وثيقة، بما فيها الكتب الصادرة بمختلف دول الكون، انسجاما مع  الطابع الكوني الذي تسعى مكتبة الكونغرس إلى تحقيقه باستمرار.

15