معرض كاريكاتير نسوي في مصر يسيء إلى رسامات حقيقيات

لا يعني الإبداع الحر للمرأة بمعناه الواسع الانحصار في قضايا نسوية ضيقة. فمن المفترض أن المرأة المبدعة أكثر إلمامًا بهذه القضايا الشائكة التي تخصها وأقدر على طرحها ومناقشتها ومعالجتها فنيا واجتماعيا. وهنا تأتي الصعوبة، فالمحكّ الحقيقي هو قدرة المرأة على الإبداع حال رغبتها في التعبير الجمالي عن مشكلاتها المتجذرة، وإلا سقطتْ في الفجاجة والدعائية.
القاهرة - بعض المبدعات يسقطن في الدعائية، فتشوب أعمالهن سطحية فنية، كمؤشر إلى تهافُت حضورها في الواقع، وهشاشة تأثيرها في المجتمع المحيط.
ومما ذكرناه فبدلا من أن يحمل معرض نسوي للكاريكاتير هموم التحرش التي تواجهها المرأة، جاء معرض “هي” بالقاهرة ليكشف أن الروابط التي تقام في عالم الفنون هي مجاميع من غير الموهوبين، تستهدف الكلام عن قضية ساخنة وتقدمها بتخطيطات سيئة. وما يصدم أكثر أن بعض المشاركات تقدمن برسومات رديئة لممثلات وفنانات كبيرات في مصر على أنها كاريكاتير.
المجاملة والشللية
جاء معرض “هي” الجماعي لرابطة رسّامات الكاريكاتير المصرية ليثير تساؤلات مهمة حول المستوى الفني لما يجري تقديمه بوصفه “إبداع المرأة”، وهو المعرض الذي انتظم منذ أيام في مكتبة القاهرة الكبرى بالتوازي مع احتفالات “يوم المرأة” حول العالم.
احتمى المعرض القاهري لرسّامات الكاريكاتير بأكثر من مظلة، ليتوارى تحتها، خارج المعايير الفنية والجمالية المجردة، منها: الاحتفاليات المحلية والعربية والدولية على مدار مارس الجاري بيوم المرأة العالمي، وأنه معرض مقام برعاية كيانات نسوية، على رأسها “رابطة رسّامات الكاريكاتير”، الجهة المنظمة.
كما أن موضوع المعرض المحدد سلفًا هو مناصرة المرأة والتعبير عن قضاياها وأزماتها الملحّة عبر الكاريكاتير، ذلك الفن الأكثر نفاذًا إلى العمق، والأصدق في تعرية هذه الجراح النسوية، الفردية والمجتمعية.
مستويات الأعمال المعروضة تراوحت بمقدار ما امتلكته من عناصر التجديد والإدهاش وتوليد الابتسامة من قلب المأساة
الصورة الأولية العامة التي عكسها المعرض هي الاستسهال والاتكاء على ما هو غير إبداعي محض، فتأسيس رابطة لرسّامات الكاريكاتير لا يعني أن كل امرأة تتقدم للانضمام يتم قبولها بوصفها فنانة محترفة، وكل عمل نسوي يتماسّ مع قضية، مثل التحرش أو التنمر أو الذكورية أو الزواج المبكر يجري توصيفه على أنه إبداع نسائي مكتمل الأركان.
فالنوايا الحسنة لا تكفي وحدها لصياغة لوحات كاريكاتيرية نابهة، أو بورتريهات شخصية متميزة، كما أن تصدير فكرة برّاقة أو عنوان عريض مثل “قضايا المرأة” لا يبرر وجود أعمال ضحلة لا تمثّل وجه المرأة المبدعة؛ بما يليق بها وبالفن الصافي.
وجه الاستسهال من جانب إدارة المعرض في التقييم النوعي للكثير من الأعمال المنتقاة للفنانات المشاركات، ضربة في مقتل للمعرض برمته، إذ كادت الفعالية ككل، على ما فيها من بعض الأعمال الكاريكاتيرية اللائقة والجيّدة تُوسَم بأنها إساءة لمستوى الرسّامات المصريات الحقيقيات، كما أن المعرض بهذا الشكل الذي ظهر عليه يحرّك الشكوك حول آلية تأسيس الروابط التي تقام في عالم الفنون وسبل إدارتها، وما إذا كانت تخضع لاعتبارات المجاملة والشللية.
وقعت أغلبية الأعمال المشاركة في فخ سيطرة الفكرة على طبيعة التناول والمعالجة، إذ تقدمت القضية الساخنة إلى الأمام، وافتقرت طرائق التعبير إلى الابتكار والعمق، وتجلى ذلك على نحو أوضح في الشق الثاني من المعرض، وهو القسم الخاص بالبورتريهات.
بدت البورتريهات مقحمة على عنوان المعرض الكاريكاتيري، فهي لا تنتمي إلى فن السخرية والمفارقة والفكاهة، وإنما هي رسوم اعتيادية، فقيرة وبدائية، لممثلات وفنانات من مشاهير النجوم في مصر، ممن جسّدن قضايا المرأة في الأعمال الدرامية، وأرادت رسّامات توجيه التحية لهن على ما أنجزنه لصالح المرأة وقضاياها.
هذه الأعمال لا تندرج تحت إطار الكاريكاتير، والحقيقة أنها هي ذاتها لم تدّع أنها رسوم كاريكاتيرية، لذلك شغلت شقًّا مستقلًّا بالمعرض، لكنْ يبقى غير مفهوم: لماذا قبلتها إدارة رابطة يدلّ اسمها على أنها مختصّة فقط بـ”رسّامات الكاريكاتير”، ولماذا مارست رسامات الكاريكاتير فن البورتريه، دون الإلمام الكافي بأدواته؟
الشق الأول من المعرض، فهو خاص بالرسوم الكاريكاتيرية الصريحة، التي شغلت الجانب الأكبر، وأسهمت فيها العشرات من الفنانات، منهن هويدا إبراهيم رئيسة “رابطة رسّامات الكاريكاتير”؛ وقوميسير المعرض، وغادة مصطفى، وهيام عزت، وهبة الطناحي، وأخريات.
تراوحت مستويات هذه الأعمال ودرجات تفوقها، بمقدار ما امتلكته من عناصر التجديد والإدهاش والإمتاع وتوليد الابتسامة من قلب المأساة، على أنه من الملاحظ أن طموح الفكرة ظلّ عادة أعلى من أبجديات التنفيذ المأمول فنيًّا.
الصراخ كهدف
على هذه المآخذ والسلبيات كلها، فإن ما بدا في صالح المعرض، هو إفساحه المجال بحريّة لرسوم الكاريكاتير كي تواكب اهتمامات الشارع المصري والعربي وأحداثه الراهنة، ممثلة في “قضايا المرأة”.
ولا يزال الكاريكاتير يحتفظ بخصوصيته في التفاعل مع قضايا الرأي العام، بوصفه فنًّا بصريًّا ووسيلة إعلامية مكتفية بذاتها، سواء اقترنت بالصحافة ومواقع الإنترنت أو لم تقترن، فهو صوت شعبي مسموع.
جاءت ثيمة المعرض صرخة نسوية جريئة كغاية على الصعيد الاجتماعي، وتظاهرة جماعية للدفاع عن حقوق المرأة وتعزيز حضورها ومناصرتها ضد كافة أشكال القهر والتمييز، وانتقاد القوانين التعسفية والممارسات الظالمة ضدها، وإثارة أهم المشكلات التي تتعرض لها، والضغوط الأسرية المختلفة التي تكبّلها وتخنق صوتها.
وقد التقطت هويدا إبراهيم، قوميسير المعرض، كادرات متعددة للاحتجاج على وضعية المرأة، المقهورة المضطهدة التي تواجه بمفردها منظومة العادات والتقاليد والموروث النمطي والقمع الذكوري، ما يعرقل خطواتها ومسيرتها، ويشدها إلى الوراء، ويجعل محطات حياتها بمثابة انتقال من قفص حديدي إلى آخر.
ووفق الرؤية ذاتها التي تعاطت مع الفن من خلال دوره الاجتماعي في المقام الأول، مضت أغلبية الفنانات، حيث التقين في أعمالهن التي تجاوزت السبعين على إعلاء صوت المرأة كضحيّة زاعقة وإظهار قضاياها من خلال اللقطات والمواقف والمشاهد القريبة، والانتقاد اللاذع، والسخرية من وضعيات رثة يجب تجاوزها، انطلاقًا من أن “شر البليّة ما يضحك”، فالبسمات إذا أمكن توليدها بالكاريكاتير فهي مشحونة بالآلام التي تكابدها المرأة العربية، وتحول دون مشاركتها في بناء المجتمع.
وتوجّهت الفنانات بشكل مباشر إلى الأزمات والقضايا النسوية الأكثر إلحاحًا، التي تعانيها المرأة في المرحلة الحالية.
ولجأن إلى الصورة أكثر من الاعتماد على التعليقات والعبارات التوضيحية، لأن المَشَاهد المرئية أكثر قدرة على تجسيد الحالة النسوية المتردية، وبلورة ما يحيط بالنساء من حرمان وقسوة وقضبان، وقيودٍ في أيديهنّ، وكمامات على وجوههنّ.
وجاء عرض اللوحات من خلال مسارين متوازيين؛ في أروقة مكتبة القاهرة الكبرى، وعبر البث الإلكتروني في السوشيال ميديا. ويبقى التأثير الفعلي مرهونًا بالقيمة الفنية، وما أقلّها وأخفّها قياسًا بالدعوات التي أطلقت.