مسرح الدُّمَى العربي في زمن السوشيال ميديا

فن شعبي يعاني من اجترار الماضي وأزمات أخرى من ضمنها غياب المبدعين، وضعف الميزانية وعدم مواكبته للمستجدات والتقنيات والتجهيزات والتطورات المبهرة.
الاثنين 2020/08/17
"الليلة الكبيرة" تجتر الماضي

لم تنجح حفلات مسرح العرائس الكثيرة بالقاهرة في إنعاش فن الدّمى وإنقاذه من عثرته، كونها حفلات استعادية في معظم الأحوال، تقف عند اجترار الماضي وتقديم الأعمال القديمة الناجحة في ثوب جديد، وعلى رأسها أوبريت “الليلة الكبيرة” الأشهر للرباعي صلاح جاهين وسيد مكاوي وناجي شاكر وصلاح السقا.

مع كل فعالية، محلية ودولية، متعلقة بمسرح العرائس، تتجدد التساؤلات حول أسباب تراجع فن الدّمى العربي، وضعف مستوى عروضه الجديدة، قياسا بالأعمال التاريخية الخالدة التي جسّدت نهضة هذا الفن الشعبي السحري في النصف الثاني من القرن الماضي.

ومع عقد مهرجان الشباب الدولي لمسرح الدمى في العراق (أونلاين)، ما بين 13 و17 أغسطس الجاري، بالتزامن مع تنظيم حفلات أوبريت “الليلة الكبيرة” في ساحة دار الأوبرا المصرية بالقاهرة، تجلت بوضوح ملامح أزمة فن العرائس العربي، في تمثلاته الشبابية والمعاصرة.

ورغم الحضور الجماهيري المقبول لهذه الحفلات، فإن مقارنة المشاهدين بين النسخة الأصلية للعمل والنسخ المستحدثة تصب عادة في مصلحة القديم، بما يعمّق أزمة فنّاني الحاضر العاجزين عن إفراز الجديد أو حتى تقليد الروّاد في الماضي المزدهر.

الشعارية والتراجع

لم تسهم مهرجانات فن العرائس في إحداث نهضة فعلية ملموسة لفن الدمى العربي، الذي بات يواجه مشكلات عميقة متشابكة تتطلب الوعي بمستجدات العصر وتطوراته، وبذل الكثير من الوقت والجهد والمال لوضع فن الدمى على خارطة المسرح العربي الحديث من جديد.

لعبت الصدفة دورها في تزامن عروض “الليلة الكبيرة” في القاهرة، مع إقامة مهرجان الشباب الدولي لمسرح الدمى في العراق الذي نظّمته دائرة ثقافة وفنون الشباب، بالتعاون مع المركز الثقافي العراقي للطفولة وفنون الدمى، بمشاركة عشرين عرضا من العراق ومصر وسوريا والجزائر وعمان، بجانب المحاضرات وورش العمل والندوات التخصصية المتعددة.

استقطاب أرواح الملايين بفن جماهيري مثل فن الدمى يتطلب رسالة فنية واضحة ومعرفة احتياجاتهم بدقة وفهم نوازعهم

لم يشترك الحدثان الكرنفاليان، المصري والعراقي، في التزامن الوقتي فقط، وإنما تشابها كذلك، حدّ التطابق، في تدبيج أهداف كبرى لهذه الفعاليات، بغض النظر عن القدرة الفعلية على إنجازها، من قبيل: تفعيل مسرح الدمى الحديث بضخ دماء جديدة في شرايينه، ونشر ثقافة فنون الدمى عمليا ونظريا وتطبيقيا، وابتعاث فن العرائس بما له من حضور استثنائي كأحد مقوّمات الهوية الثقافية والحضارية، وأحد روافد تعزيز الذائقة الجمالية والوعي القيمي.

مع هذه الشعارية الجوفاء المهيمنة على الحدثين، المصري والعراقي، فإنهما التقيا كذلك في ضعف التأثير، فكما لم تخرج الفعالية المصرية من شرنقة الاستنساخ، فإن التظاهرة الدولية العراقية قد فرّغت عروض العرائس من أهم أبجدياتها، وهي أن المسرح بالضرورة هو الجمهور، بمعنى التفاعل واللحظية والعلاقة التبادلية بين الخشبة والحضور.

إن مسرح الدمى على وجه الخصوص، الموجه للأطفال والصغار في المقام الأول بأساليب مبتكرة شيّقة، إذا صارت عروضه افتراضية “أونلاين”، فهو بمثابة أداء واجب ليس إلا، ولن تكون له في هذه الحالة الباهتة جاذبية جمالية ولا مصداقية فنية، ولا يمكن للمتلقي الانخراط في الأحداث الدرامية، والتوحد مع الشخوص (العرائس المحببة) وتقصّي جوانب العمل المسرحي وعناصره ومفرداته المتضافرة.

وبما يعني في نهاية الأمر تبدد الرسالة، وغياب فرصة هذا اللون من المسرح في تشكيل الوجدان وتوثيق ملامح الحياة الشعبية واللعب على أوتار القلوب ودفع البشر إلى سلوكيات إيجابية وانتقاد أمور مجتمعية سلبية، وغير ذلك من المنجزات التي دأب مسرح الدمى “الطبيعي” على إدراكها ببساطة، بعرائسه الحية، التي تفوقت على الممثلين الآدميين في التأثير، لأن البشر يميلون أكثر إلى التفاعل مع الفن القادم من خلف قناع، لما فيه من تشويق وخيال وإثارة وإبهار في الإقناع.

عجز عن إفراز الجديد
عجز عن إفراز الجديد

خلف الجهود المسطّحة لمعالجة خفوت مسرح الدمى العربي، التي قد لا تخلو من نوايا طيبة، تكمن أزمات حقيقية عميقة تتطلب حلولا جادة مدروسة، إذا أريد لفن العرائس العريق، الذي صيغت به أسطورة إيزيس وأوزوريس في عهد الفراعنة، أن يرى النور مرة أخرى، وأن يعود حصنا لصون الذاكرة، بأشكاله المعروفة المتنوعة، مثل عرائس الماريونيت، والقفاز، والقناع، وخيال الظل، والأراجوز، وغيرها.

وكلها أنماط انحازت عبر التاريخ إلى الشارع ومواطنيه من العاديين والبسطاء، وعبّرت عن طموحاتهم وآمالهم وآلامهم، وانتقدت بلسان لاذع السلطات الغاشمة والقوى المتجبرة، وانتصرت لحرية التعبير بالمزج الذكي بين القصص المسلية والمضامين الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والإنسانية.

اللحاق بالزمن

في مصر، شأن الكثير من الدول العربية، من الممكن تعيين أسباب متعددة لتراجع فن الدمى، منها على سبيل المثال لا الحصر، انحسار إنتاجه، وضعف الميزانية المخصصة له من جانب المؤسسات الرسمية، وسيطرة الموظفين على القطاعات الإدارية بوزارة الثقافة ومسارح الدولة، وندرة الكيانات الخاصة والأهلية والمستقلة التي تضطلع بمثل هذا الفن.

كما أن هذه الهيئات تنحو نحوا تجاريا صرفا، فتركز على أنماط معينة، كحفلات أم كلثوم الغنائية من خلال العرائس، بهدف تحقيق الربح في المقام الأول، ولا تعنى بتقديم عروض عرائس حية مستحدثة.

عروض غير مقنعة من حيث الشكل والمضمون والأداء
عروض غير مقنعة من حيث الشكل والمضمون والأداء

من أسباب التراجع الأخرى، غياب مبدعي فن العرائس الروّاد والكبار، إما برحيلهم، أو بتوقفهم لعدم توفر مناخ يشجع على العمل، وابتعاد الأجيال اللاحقة عن هذا الفن الذي بات غريبا وسط فنون أخرى بصرية وحركية فرضت حضورها على الساحة.

من الأسباب كذلك، انشغال الأطفال والصغار، وهم جمهور العرائس الأول، بالسوشيال ميديا والإنترنت وقنوات التواصل والفنون المعاصرة، وعدم مواكبة فن الدمى العربي للمستجدات والتقنيات والتجهيزات والتطورات المبهرة التي طرأت على هذا الفن عالميا، إذ تبدو مسرحيات العرائس وعروضها المنتجة حديثا خارج الزمن، وغير مقنعة بالمرة من حيث الشكل والمضمون والأداء.

أما أخطر ما ضرب فن العرائس في مقتل، ويتطلب تداركه الكثير من العناء، فهو ذلك التجريف الذي اعترى الوعي الثقافي والفني بصفة عامة في السنوات الأخيرة، فاستقطاب أرواح الملايين بفن جماهيري مثل فن الدمى يتطلب معرفة احتياجاتهم بدقة، وفهم نوازعهم النفسية، وتقصي دواخل ذواتهم في أعمق طبقاتها الكامنة، ليصير بالإمكان طرح أعمال قيّمة، ذات حنكة وإتقان واهتمام بالتفاصيل الدقيقة ودراية بمقوّمات الهوية وسمات الحياة الشعبية المتجذرة في تربة الموروث والعادات والتقاليد.

14