مسرحي تونسي يركب آلة الزمن بحثا عن التجديد

من العناوين البارزة في برمجة مهرجان قرطاج الدولي في دورته السادسة والخمسين المزمع انعقادها في الفترة الممتدة بين الثامن من يوليو القادم وحتى السابع عشر من أغسطس المقبل، يحضر المخرج التونسي أنور الشعافي بمسرحيته الجديدة “كابوس آينشتاين”. “العرب” التقت صاحب “هوامش على شريط الذاكرة” و”المسودة” و”رقصة السرو” و”بعد حين” وغيرها من التجارب المسرحية الجادة، فكان هذا الحوار.
تونس – قلة هم المسرحيون الذين يحوّلون أعمالا أدبية تونسية إلى عرض مسرحي متكامل، ومن هذه القلة يحضر المخرج المسرحي التونسي أنور الشعافي الذي انتهى أخيرا من تقديم عرضه قبل الأول لمسرحية “كابوس آينشتاين” المقتبسة عن رواية للكاتب التونسي كمال العيادي الشهير بـ“الكينغ” بالعنوان ذاته.
“العرب” حاورت الشعافي الذي يستعدّ لتقديم عرضه الجديد على خشبة مسرح قرطاج الأثري في الثاني عشر من يوليو القادم، ضمن فعاليات الدورة السادسة والخمسين من مهرجان قرطاج الدولي (الصيفي)، منطلقة من سؤاله حول ردّة فعله إزاء هذه العودة الاستثنائية لأبي الفنون في أعرق المهرجانات العربية والأفريقية بخمس مسرحيات تونسية بعد سنوات من التهميش والإهمال؟
فقال “هذه الدورة أرجعت المسرح إلى مكانه الطبيعي، فقد شيّد الرومان مسرح قرطاج لعرض المسرحيات، ومهرجان قرطاج تم افتتاحه في سنة تأسيسه (1964) بمسرحية ‘مدرسة النساء’ لفرقة مدينة تونس، وظل يُفتتح بالمسرح لدورات متعاقبة قبل أن يدنّس خشبته بعض مديريه الذين برمجوا أصحاب المسرح التجاري، فأساؤوا إلى هذا الفن العريق”.
ويضيف صاحب مسرحيتيْ “من ليلى إلى جولييت” و“ترى ما رأيت”، “عودة المسرح إلى موطن نشأته يُحسب لهيئة المهرجان في دورته الجديدة، ووجب تثمين ذلك والدفاع عنه، وأستغرب مواقف بعض المسرحيين المشكّكة في هذا التوجّه”.
وهو يؤكّد أن “المسرح الجاد له مكانته ومكانه في قرطاج وبتراكم الدورات سيسترجع الفن الرابع جمهوره بمساندة إعلامية ترتقي بالذوق وتقطع مع ثقافة الاستسهال، وفي المقابل وجب على المسرحيين تجاوز كل أشكال المسرح المحنط والقوالب الجاهزة التي لا تُخاطب عين مُشاهد الألفية الثالثة”.
إنسانية معولمة
في دورة قرطاج لهذا العام يحضر الفن الرابع بكثافة، ما يمثّل خُمس برمجة المهرجان من جملة 24 عرضا توزّعت بين المسرح والموسيقى، وتأتي مسرحية الشعافي “كابوس آينشتاين” من جملة خمسة عروض مسرحية تونسية أخرى هي “ياقوتة” لليلى طوبال و“ربع وقت” لسيرين قنون و“آخر مرة” لوفاء الطبوبي و“على هواك” لتوفيق الجبالي، وهو ما يمثّل سابقة في تاريخ المهرجان.
ومع ذلك يرى بعض المهنيين أن العروض المسرحية المقترحة في مهرجان قرطاج الصيفي لهذا العام لا تحقّق الفرجة المرجوّة على اعتبار أنها عروض جعلت أساسا لفضاءات أصغر وأكثر حميمية.
عن هذا الرأي، يقول الشعافي “من الصدف العجيبة أن كل هؤلاء المشكّكين هم أصحاب إنتاجات لم تقع برمجتها، وبعضها متواضع من حيث القيمة الفنية، وبعضها الآخر جدير بالبرمجة، ومسألة الحميمية لها علاقة بتصوّر إخراجي يأخذ في اعتباره فضاء المسرح المفتوح في ما يتعلق بالإضاءة وتحرّكات الممثلين وتقنيات أدائهم من صوت وحضور جسدي وطاقة وشحنات، ولو كان هؤلاء المعترضون ضمن برمجة قرطاج لهذا العام لصمتوا عن هذا التعليل المفخّخ، إذ كان عليهم أن يثمّنوا هذا التوجه عوض انتقاده، والدورات دول واليوم عرض وغدا آخر والخشبة فسيحة تتّسع للجميع”.
وبالعودة إلى عرضه المُرتقب على خشبة مسرح قرطاج الأثري في يوليو القادم سألت “العرب” الشعافي هل من السهل تحويل رواية بين دفتي كتاب إلى الخشبة؟ خاصة وأن لكلا الفنين أدواته المختلفة؟
فقال “بالنسبة إلى ‘كابوس آينشتاين’ فهي نص مسرحي بالأساس وصعوبته تكمن في مرجعيته الكلاسيكية، بطل محوري بُنيت عليه الأحداث، له مساندون ومعارضون في مساره الدرامي وتقطيعها التقني فصول ومشاهد، كما تكمن الصعوبة في خيال الكاتب المُجنّح المُربك وبهلوانية لغته”.
ويضيف “هذا الخيال المجنّح حمّلته معالجتنا السينوغرافية جمالية أخرى مُستحدَثة يمكن تصنيفها فيما يُسمّي بالدراما الجديدة، والتي نجد أدواتها في أعمال جيل جديد من المسرحيين الألمان مثل أنجا هيلينيغ وفولك ريختر التي لا تقطع تماما مع الدراما الأرسطية، كما فعل هانس ثييس ليمان في نظريته حول المسرح ما بعد الدرامي، ذلك أن المسرح مسارح والجمالية في صيغة الجمع، وهو فن طازج متجدّد، ونص – النص يختلف عن نص – الخشبة، ويوجد عندنا مخرجون لا يؤمنون بالتعدّد الجمالي وإقصائيون في طرحهم الفني، وهم في حقيقة أمرهم أصحاب جماليات أكل عليها المسرح وشرب”.
المخرج التونسي يرى من الضروري نزع صفة القداسة عن أرسطو مصّاص دماء الفن الرابع، فأساس المسرح الهدم والتقويض
تطرح مسرحية “كابوس آينشتاين” قضية الزمن والتحوّلات التي يعيشها الإنسان المعولم في انتقال رشيق بين كاليفورنيا وبين مضارب الخيام العربية، وعبر شخصيات من الزمن الحديث كآينشتاين ومارلين مونرو وأخرى من العصر الجاهلي كعلقمة وحُباب، وهو جمع طريف بين حضارتين وتاريخين متباعدين يُبرزان دون شك أنهم وأننا أيضا، جميعنا ضحايا التقدّم العلمي الذي أصبحت فيه العلوم لهوا باطلا، وهو التناقض الذي بنى عليه الكاتب كمال العيادي نصه، وهو أيضا إحدى تقنيات كوميديا الموقف التي تنشأ من هذا التباين الصارخ بين زمنين متباعدين.
تناقض اشتغل عليه الشعافي في مسرحيته واضعا شخصيات مُعاصرة في زمن قديم، مفسّرا “هو زيارة ومساءلة لهذا القديم بمعارف جديدة وفكر حديث، ممّا يخلق موقفا نقديا من كليهما وإبرازا للجانب السلبي من التطوّر العلمي إذا لم نحسن استغلاله أو نسرف في استعماله”.
النقد بسخرية

عن القصدية من وراء السفر عبر الزمن كما أتى في المسرحية بشكل ارتدادي عوض الانتقال إلى عصور لاحقة يوضّح المخرج المسرحي التونسي “أولا، لأن الدافع الدرامي الذي تخيّله الكاتب بالنسبة إلى شخصية آينشتاين هو الالتقاء بمارلين مونرو التي يعشقها، وهذا الارتداد إلى الوراء يسمح له بلقائها”.
ويسترسل “أما الدافع الثاني، فهو نوع من المساءلة لذلك التاريخ القديم أراده المؤلف ساخرا، وأتذكّر هنا مقولة لمخرج بولوني اسمه كاسيمير غروشماكسكي أجرى لنا ورشة عمل حول بناء الكوميديا في أواخر ثمانينات القرن الماضي، حيث قال: ننقد بجدية حين ننقد بسخرية، وهنا لا بد من التنويه بتمكّن كاتب النص وقدرته على تمثّل لغة الوضعيات والفضاء اللغوي للشخصيات بين التي عاشت في عهد الجاهلية مثل حُباب وعلقمة، وتلك التي عاشت في عصرنا مثل آينشتاين وغودل”.
واعتمدت مسرحية “كابوس آينشتاين” في فصول منها أدوات غير مسرحية كتقنيات الرياضات القصوى، وهنا تسأل “العرب” الشعافي هل يعني ذلك أن للمسرح أدواتا أخرى لم يتمّ استغلالها بعد بالشكل الأمثل؟
فيقول “أعتقد، ولست وحدي في ذلك، أن المسرح بشكله التقليدي أصبح مهدّدا في وجوده، فبات من الضروري أن يطوّر من نفسه دون أن يفقد هويته طبعا، كونه فنا طازجا يحيا بآنيته، أساسه الممثل مهما تقدّمت تقنياته، لذلك شهدنا منذ بدايات القرن الماضي انفتاح هذا الفن على بقية الفنون، ثم استغلال التكنولوجيات ووسائل الاتصال الحديثة”.
والشعافي أحد أهم المهتمين بهذا التوجّه، وهو الذي سبق له الاشتغال في مسرحيته “ترى ما رأيت” على الممثل عن بعد، واعتمد في “أو لا تكون” على توظيف السرك الفني في أداء الممثل وحركته، أما في “كابوس آينشتاين” فقد استند هذه المرة على بعض أدوات الرياضات القصوى مثل “الهوفيربوارد” و“العجلات الدوّارة”، وهو يهدف من خلال ذلك البحث عن حساسية متلهفة وإيقاع آخر لحركة الممثل على الخشبة، وأيضا مغازلة اهتمامات الجيل الجديد من المُشاهدين بعد أن أصبح المسرح في قطيعة مشهدية معه.
أنور الشعافي يؤكد أنه على المسرح مغازلة جيل الألفية الثالثة بأدوات العصر التي يفهمها
وهو في ذلك يقول “المسرح هو خيال رحب لا يستكين للمسلّمات الجمالية وتاريخ المسرح هو تاريخ هدم وتقويض، ولا بد من نزع صفة القداسة عن أرسطو مصّاص دماء المسرح الغربي، كما عنونت فلورنسا دوبونت كتابها، ذلك أن الانحناء للقواعد القديمة يجعل المشهد المسرحي مستنسخا من بعضه بعضا”. ويقول جازما “المسرح يشبه طائر الفينيق يحيا من رماده، وهو فن له قدرة عجيبة على التحوّل والتجدّد والانفتاح”.
هكذا يبدو الشعافي ومن خلال مسرحياته المتنوّعة التي راكمها منذ أكثر من ثلاثة عقود مختلفا ومنفردا في الطرح والبناء السينوغرافي، وكأنه يسعى إلى إرساء نوع جديد من المسرح المُربك للمتفرج والنقاد على السواء، والمقوّض لآليات المسرح الكلاسيكي التقليدي. وهنا تسأله “العرب” هل بإمكاننا الحديث الآن عن تجربة منفردة للشعافي أساسها مسرح الخيال العلمي؟
فيجيب بخجل المتمكّن من أدواته والواثق من مساره “أنا أعتبر نفسي مبتدئا في كل تجربة أخوضها، فآفة المسرح في تونس هي الادّعاء والتهافت، وبعض هؤلاء لا يتجاوز عدد أعمالهم أصابع اليد الواحدة، ومع ذلك يُكابرون، ولا أراني أشبههم”.