مخرج سينمائي تونسي يعيد عليسة إلى صور

من الأفلام التي شدّت انتباه جمهور مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية التاسع، قبل الإعلان عن إيقاف فعالياته الجماهيرية إثر تفشي فايروس كوفيد- 19 بصعيد مصر، الفيلم الوثائقي التونسي “الرجل الذي أصبح متحفا” لمخرجة مروان الطرابلسي، الذي تميّز بشجنه وشاعرية إضافة إلى رمزيته.
شارك التسجيلي الطويل التونسي “الرجل الذي أصبح متحفا” لمخرجه مروان الطرابلسي في فعاليات الدورة التاسعة من مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية (من 5 إلى 11 مارس) ضمن مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة، والتي ذهبت جائزتها الأولى (قناع توت عنخ آمون الذهبي) إلى الفيلم السنغالي “الوقت في صالحنا” للمخرجة كاتي لينا نداي. فيما نال الفيلم التونسي إشادة كلّ من حضر عرضه العالمي الثالث بالأقصر، وذلك لجدّة طرحه وجودة اشتغاله البصري الأقرب إلى التشكيل السينمائي.
ويعدّ التسجيلي “الرجل الذي أصبح متحفا” (61 دقيقة) ثالث فيلم وثائقي للمخرج والتشكيلي التونسي مروان الطرابلسي (40 عاما)، بعد “صامدون” (2012) و“المُغرّبون” (2014)، علاوة على فيلميه الروائيين القصيرين “في عيني طفل” (2007) و“أمي نجم النجوم” (2008).
و“الرجل/ المتحف”، كما يحلو لي عنونته، فيلم يتناول بالصورة والصوت سيرة ومسيرة الفنان التشكيلي التونسي الراحل حديثا علي عيسى (20 مارس 1938 / 19 ديسمبر 2019)، وهو مؤسّس ومدير “الرواق الوطني محراب الفنون”، أو غاليري “عليسة” بيته ومرسمه، بجهة باردو (ضواحي العاصمة تونس) والذي أقام فيه بمفرده منذ أعوام.
وبإيقاع بطيء، كحال يوميات عيسى العجوز المُنهك الذي أعيته وحدته، بعد أن اختار عن طواعية الانعزال في محرابه/ مرسمه، تتبّع كاميرا الطرابلسي مسيرة الفنان/ اللغز. لغز في انعزاله، ولغز في ألوانه ولغز في طريقة عيشه.
مسيرة زاخرة
تحدّث التشكيلي (الراحل) في الفيلم عن مساره التعليمي، وهو الذي زاول تعليمه الثانوي بالمعهد الثانوي ببنزرت قبل أن ينتقل للدراسة الجامعية بمدرسة الفنون الجميلة بتونس العاصمة في بداية الخمسينات من القرن الماضي. ليتلقّى إثرها أكثر من تكوين أكاديمي بمعاهد وأكاديميات أجنبية على غرار الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة والجامعة الأميركية ببيروت. كما عمل في مجال التدريس في تونس وكذلك لبنان.
كما تحدّث عيسى عن التتويجات والجوائز المحلية والعالمية التي حصل عليها خلال مسيرته الفنية الطويلة من فرنسا وإيطاليا وكندا وتونس، لعل أهمها الميدالية الذهبية للمهرجان الدولي للرسم بتونس (1992)، والميدالية الفخرية عن أكاديمية باريس الشرقية للفنون البصرية والتشكيلية (1986)، والميدالية الفضية عن الأكاديمية الدولية بمارينا الإيطالية. وهو الذي يمتلك رصيدا كبيرا وثمينا من الأعمال التشكيلية التي يبلغ عددها حوالي ثلاثة آلاف عمل.
معلومات تبدو بديهية وعادية لكل مُهتم بالشأن الثقافي التونسي، أو ذاك الذي عرف الفنان / الراحل عن قُرب، ولو لمرحلة ما من حياته، كحال كاتب هذه الأسطر. لكن الجديد/ المُفاجئ في فيلم الطرابلسي ذاك البوح غير المُعلن مُسبقا من فنان عهدناه كتوما، شحيح الكلمات.. ثرثار الألوان.
تحدّث عيسى، في بداية الفيلم، عن نبوءته بوفاة والده وهو طفل صغير، وهو ما حدث في الواقع، فبعد أن لاعب وداعب الوالد صغيره، وهو بين أحضانه، سأله: من أنا بنّي.. هل تعلم أننّي والدك؟
فقال الطفل/ علي ببراءة الصبا: بابا مات (أبي مات). وما إن ذهب والده لغُرفته ليستريح من شقاء يومه، حتى فارق الحياة في فراشه الوثير الهادئ.
هكذا اعترافات ما كان لها، أن تُعلن، لولا صبر مروان الدؤوب، على توثيق سيرة علي عيسى، والتي امتدت زهاء خمس سنوات من التصوير وإعادة التصوير لالتقاط اللحظات الأكثر حميمية ورمزية.
اعتراف آخر خصّ به الفنان صديقه الفنان، ذاك الذي أقرّ فيه عن أسباب عزوفه عن الزواج طوال سنوات حياته المديدة، وهو الذي أحب في حياته امرأة واحدة، تعرّف عليها أيام دراسته الجامعية في لبنان، وأنجب منها طفلا. لكنّ لعنة الموت تحضر مرة أخرى فتفجع عيسى في زوجته ووحيده إثر حادث مرور مروّع بجبل لبنان.
الموت، هذا الضيف الثقيل على جسد عجوز آثر الوحدة والرسم، داهمه هو هذه المرّة، يوم عرض فيلم مروان الطرابلسي بالمهرجان الدولي للفيلم الوثائقي بخريبقة المغربية في دورته الحادية عشر، والتي انعقدت في الفترة المُمتدة بين 18 وإلى 21 ديسمبر 2019. ليتوّج الفيلم بثلاث جوائز دُفعة واحدة، وهي جائزة: أحسن إخراج، وجائزة النقاد وجائزة الغرفة المغربية للفيلم الوثائقي.
كاميرا متحفّزة
مروان الطرابلسي الذي قدّم في الفيلم إلى جانب كلّ ما سبق من اعترافات غير مسبوقة من قائلها رأسا، أجاد التعامل مع حركة الكاميرا التي تأتي أحيانا “كلوز آب” على وجه أو أصابع علي عيسى وهو يقطّع الخضروات، ليعدّ طعامه بنفسه. وفي أحيان أخرى لقطة شاملة بعيدة متى تعلّق الأمر بتمرير مشهد لرسومات الفنان باذخة الألوان.
ليغدو من هناك عنوان الفيلم “الرجل الذي أصبح متحفا” مُتسقا، تماما، مع التقاطات كاميرا مروان الطرابلسي، القريبة والبعيدة، وكأنه يُهجّينا من خلال حركتها ألف باء التكوين البصري/ السينمائي لرجل بات هو اللوحة، واللوحة هو.
رجل أوصى في الفيلم بمنح بيته/ مرسمه بعد وفاته إلى الدولة التونسية، في حين يأتينا “تيتر” نهاية الفيلم بأغنية فيروزية، عنوانها “لبيروت”؟
هي ربما رحلة عكسية، هذه المرّة لـ“عليسة” الألفية الثالثة من باردو التونسية إلى صور اللبنانية، هي إحياء لأميرة بونيقية صنعت مجد “قَرْت حَدَشْت” (المدينة الجديدة)/ قرطاج حاليا، وعلي عيسى ومن ثمّة مروان الطرابلسي يُعيدان إليها بريقها مُجدّدا. أفلم يُسمّي علي عيسى رواقه/ بيته “عليسة”؟ وما أشبه اسم علي عيسى “مُجمّعا” بعليسة.