"مجاذيب" فيلم تونسي عن أطفال جابهوا التهميش بالموسيقى

الفيلم يقدم عبر شخصياته الأطفال، الذين اختاروا الموسيقى ملاذا وأملا رسائل كونية دون غوغاء ولا استعراض ولا تنميط.
الثلاثاء 2019/03/05
ملحمة إنسانية من الزمن الراهن

تعوّدت المكتبة السينمائية التونسية، مساء الثلاثاء من كل أسبوع، على تنظيم عرض خاص لأحدث الأفلام التونسية بقاعة الطاهر شريعة بمدينة الثقافة بالعاصمة التونسية، وذلك ضمن تظاهرة “ثلاثاء السينما التونسية”، لتنفرد أخيرا بتقديم العرض ما قبل الأول لفيلم “مجاذيب” للمخرجة التونسية شيراز البوزيدي.

تونس – شيراز البوزيدي، هي ممثلة ومخرجة تونسية قدمت عددا من التجارب الدرامية التلفزيونية والإذاعية، وفي رصيدها سبعة أفلام قصيرة منها “النجاح” المتحصل على عدة جوائز داخل تونس وخارجها و”دنيا أحلى” (إنتاج 2013) الذي شارك في مسابقة الأفلام القصيرة في أيام قرطاج السينمائية للعام 2014.

وبعد تأسيسها لشركة إنتاج خاصة “سكاي برود”، أنتجت وأخرجت البوزيدي الفيلم الوثائقي الطويل “مجاذيب”، الذي عرض في الدورة الأخيرة لأيام قرطاج السينمائية 2018، كما تم عرضه مؤخرا بقاعة الطاهر شريعة بمدينة الثقافة بالعاصمة التونسية ضمن تظاهرة “ثلاثاء السينما التونسية” التي تنظمها “السينيماتاك” مساء كل ثلاثاء.

وينطلق فيلم “مجاذيب” من قلب مدينة الرديف (جنوب غرب تونس) والتي تعرف بمدينة الفوسفاط أين توجد أھم المناجم المنتجة للفوسفاط في العالم، مع ذلك ظلت مهمشة اجتماعيا واقتصاديا لعدة عقود من الزمن.

من هناك قد يذهب في ذهن المُشاهد أن الفيلم سيتحدّث عن الفوسفاط أو الذهب الأسود الذي تخصّصت المدينة التابعة لمحافظة قفصة في إنتاجه منذ مطلع القرن العشرين، إلاّ أن أحداث الفيلم الوثائقي الأول لمخرجته لن تتمحور حول الرديف وتاريخها النضالي وما تعانيه من تهميش، بل هي عن شخصيات موسيقية مهمشة ومنسية هي الأخرى كحال المدينة وأهلها.

شيراز البوزيدي: القصة تحاكي واقعا من الفقر والتشرد والمرض، يصعب تصديقه لقسوته

وتقول البوزيدي “بما أن كل فيلم يصوّر في إطار مكاني وزماني محدد، فإن الإطار المكاني في “مجاذيب” كان الرديف، أما الإطار الزماني فهو الآن وهنا، أي تونس اليوم”.

هناك، أي في قلب مدينة الرديف، تعرفت البوزيدي على مجموعة موسيقية تعزف السطمبالي (موسيقى شعبية تونسية) في المناسبات والاحتفالات وبعض المهرجانات الصغرى.

وهي فرقة يتكون أغلب أعضائها من أطفال لا تتجاوز أعمارهم الـ18 سنة، باستثناء علي بن سعيد (50 عاما) ووجدي (20 عاما) ومحمد العبيدي (30 عاما) وهو قائد الفرقة، أما بقية الأعضاء فهم: هيثم (13 سنة)، وحمى (16 سنة) وناجح وأشرف (17 سنة) وسليم (18 سنة).

وهذه التركيبة أثارت فضول البوزيدي، فبدأت في سؤال أهالي الرديف حتى عرفت أن محمد ريونة، الحاضر/ الغائب، في الفيلم قام بتأسيس ھذه الفرقة المختصة في موسيقى السطمبالي، من خلال دعوة أبناء حيه، الذين يعيشون ظروفا اجتماعية صعبة للانضمام للمجموعة، وهو ما كان، ومن هناك قررت تصوير الفيلم الذي انطلقت فكرته في العام 2014، لتنجزه فعليا بعد أربع سنوات.

وتحاكي موسيقى السطمبالي تاريخ “زنوج” تونس ومعاناتهم، وهي منحدرة من الثقافة الأفريقية بالأساس، ولها مرادفاتها في مختلف دول شمال أفريقيا، كـ”القناوة” في الجزائر والمغرب، “الديوان” في الجزائر، “المكاري” في ليبيا، و”البوري” في موريتانيا.

وتتميز هذه الموسيقى بآلاتها وإيقاعاتها الخاصة، مثل “الشقاشق”، وهي صفائح معدنية ذات جرس نحاسي تشير إلى صوت الأغلال وطَرق الحديد الذي رافق رحلة العبيد الزنوج إلى شمال أفريقيا، و”الغمبري”، وهو آلة وترية وإيقاعية، ويقول المختصون في عزفه أنه يُرشد السامعين إلى بوابات اللحن الأفريقي ويطهرهم من النشازات الخانقة، أما “الطبلة”، فهي حاضرة لكي تشحن الأرواح الراقصة في تحرر من الوعي بثقل العالم وفوضاه.

وعرفت تونس سابقا كمكان لتجارة الرقيق طوال قرون طويلة، قبل أن يتم تحرير العبيد الأفارقة، بموجب “قانون إلغاء الرق” الصادر في عهد حاكم تونس أحمد باي في العام 1846.

الموسيقى ملاذ للتهميش
الموسيقى ملاذ للتهميش

و”مجاذيب” عنوان الفيلم، لم يحد كثيرا عن هذا الطرح المُقاوم للإقصاء والتهميش، إذ تقول مخرجة العمل “يتناول الفيلم الزاوية الإنسانية من الموضوع، وهي تمثل بالنسبة إلى القصة أهم زاوية بما تحمله من مبادئ أصبح نادرا وجودها، إذ أن هذه الشخصيات التي تعاني من الفقر والتهميش والنسيان، اختارت الموسيقى كملاذ بدل الانحراف أو ربما التطرف”.

وتضيف “هي قصة تحاكي واقعا من الفقر والتشرد والمرض، يصعب تصديقه لقسوته، ولكن وسط ذلك الواقع المرير والمؤلم يطل بصيص من الضوء والأمل عبر الموسيقى الحالمة”.

ولم يكن عنوان الفيلم “مجاذيب” اعتباطيا، فالمجاذيب هم من ينجذبون لعالم التصوف ويميلون لعشق الأشياء الجميلة على غرار الموسيقى ، وھؤلاء الأطفال انجذبوا لعالم “السطمبالي” رغم ظروفهم القاسية، لذلك اختارت شيراز البوزيدي أن يكون الفيلم بعنوان “مجاذيب”، وهو عنوان صائب مئة بالمئة، في منحيين، أولهما ما سبق ذكره آنفا، من انجذاب محمود لأطفال مهمّشين نحو الموسيقى التي ارتقت بهم من صفة العاديين، أو ربما الضالين، إلى صفة الفنانين، وثانيهما نتيجة ما حقّقه للمُشاهد من انجذاب، أيضا، نحو قصة إنسانية ملحمية من الزمن الراهن، تقدّم رسائل كونية دون غوغاء ولا استعراض ولا تنميط.

وربما يبدو أجمل ما في الفيلم علاوة على رسالته الإنسانية السلسلة، أن ألوانه أتت صحراوية جافة في انعكاس طبيعي لتضاريس المكان، الرديف، ما انعكس بدوره على روح الشخصيات في انكسارها وانتصارها، وفي انسداد الآفاق أحيانا واتساعها دائما مع كل أغنية ينشدونها.

16