مئة عام على ميلاد عبقري السينما الإيطالية فيديريكو فيلليني

إعادة اكتشاف روما بين الذاتي والموضوعي والتاريخي والمعاصر.
الأحد 2020/01/26
سطوة الكنيسة

يحتفل العالم هذه الأيام بمرور 100 عام على مولد المخرج الإيطالي الكبير فيديريكو فيلليني، فقد ولد في بلدة ريميني في 20 يناير 1920. وحتى وفاته عام 1993 كان قد أخرج 24 فيلما طويلا، حملت بصمته الخاصة كفنان سينمائي صاحب أسلوب مميز، ساهم مع دي سيكا وروسيلليني وأنطونيوني وفيسكونتي وبازوليني في وضع إيطاليا على خارطة السينما في العالم.

بعد أن قدم فيلمه الأكثر طموحا “ساتيريكون” (1969) الذي يعكس رؤيته الخاصة المليئة بالجموح لـ”روما” القديمة وعالمها المليء بالغرائب والعجائب، يقدم فيلليني بعد ذلك “روما فيلليني” (1972) أي روما كما يراها فيلليني. والمقصود روما التي عاشها في شبابه وصولا إلى الزمن المضارع حينما كان يصور الفيلم في أوائل السبعينات.

يتضمن “روما فيلليني” الكثير من ملامح السيرة الذاتية لمخرجه، تماما مثلما كان فيلمه الأشهر “8 ونصف” (1963) ثم في ما بعد، “أماركورد” (1974). فهذا الفنان السينمائي المرموق الذي لعب دورا أساسيا في ميلاد “الواقعية الجديدة” مع رائدها الكبير روسيلليني، سرعان ما هجر الواقعية بعد 6 أفلام، وأطلق العنان لخياله الجامح، في تعبيره عن رؤيته “الذاتية” للعالم، لعالمه الخاص وتجاربه الذاتية. لكن فيلليني لا يزعم أبدا أنه يسرد ذكرياته أو يستعيد الماضي من خلال “الحقائق” أو رواية “التاريخ”، فكل من الحقيقة والتاريخ يمكن إخضاعهما للكثير من التساؤلات عندما يتعلق الأمر بـ”الرؤية الذاتية”، خاصة رؤية فيلليني الذي عرف بولعه بعالم الأحلام.

في الفيلم كثير من المناظر أو الأماكن المألوفة المعروفة التي تميز “روما السياحية”، لكن ما نشاهده لا يشبه ما نعرفه في الواقع سوى من حيث الملامح العامة الخارجية فقط. فكاميرا فيلليني تضيف وتضفي، تقترب وتبتعد، تصنع دلالات أخرى للصور، تجعلها تكتسب خصوصياتها أيضا من الحركة المستمرة للكاميرا التي تميز أسلوب فيلليني الباروكي الشهير وتركيزه الحالم على “الجمال العظيم” الذي يبرز في التكوينات والتصميمات المعمارية بقبابها الشهيرة، والديكورات الداخلية ذات الألوان الناصعة، ليس من أجل استعراض العضلات بالطبع، ولا لمجرد المرور السريع على أكبر مساحة ممكنة من “المنظور” ولكن لخلق مشاعر وتأثيرات محددة.

موسيقى نينو روتا تصاحب عناوين الفيلم، توحي بأننا سننتقل في الزمن، سنعود إلى الماضي. فهي موسيقى مليئة بالحنين والسحر كأنها تمهد لما سنراه خلال تلك الرحلة التي يصحبنا فيها “المايسترو”. ومع نهاية العناوين تظهر لقطة لأشجار وفلاحات يركبن دراجات، يتحدثن عن أقاربهن الذين هاجروا إلى أميركا وماذا يقولون عن العالم الجديد في رسائلهم. إننا في ريميني مسقط رأس فيلليني، تلك البلدة الساحلية الصغيرة التي خلدها في رائعته “8 ونصف”.

الأشجار عارية والسحب تتجمع في السماء والبيئة فقيرة جافة واللقطة شبه مظلمة والكاميرا تتحرك لتستعرض صخرة كبيرة ثم يظهر صوت فيلليني يخبرنا أن ما يعرفه عن روما القديمة هو صخرة ضخمة كانت تقع خارج بلدته. ثم يستعيد في المشهد الثاني ما كان المدرس (في المدرسة الكاثوليكية) يلقنه للتلاميذ عن روما: يأخذهم إلى النهر الذي يقول إن يوليوس قيصر قد عبره. وتطلب المعلمة من التلاميذ وبينهم فيلليني خلع أحذيتهم وعبور النهر وراء المدرس الذي يقودهم وهو يهتف: إلى روما.

هذا الفنان السينمائي المرموق الذي لعب دورا أساسيا في ميلاد "الواقعية الجديدة" مع رائدها الكبير روسيلليني، سرعان ما هجر الواقعية بعد 6 أفلام، وأطلق العنان لخياله الجامح، في تعبيره عن رؤيته "الذاتية" للعالم، لعالمه الخاص وتجاربه الذاتية

ننتقل إلى صعاليك يقفون في الشارع قرب المسرح. موسيقى عالم السيرك.. ثم مشهد من مسرحية “يوليوس قيصر” حيث يُقتل قيصر بأيدي رفاقه، ثم إلى المدرسة حيث يصبح المدرس مهرجا وهو يتحدث عن العظمة الرومانية القديمة، وكيف يعبث به التلاميذ، ثم إلى قاعة الطعام حيث يمارس القس القهر عليهم بدعوى الانضباط، ثم يعرض عليهم عن طريق الفانوس السحري صورا لبعض المعالم الشهيرة في روما وأولها كنيسة سانتا ماريا ماغيوري الشهيرة، ثم قوس الإمبراطور قسطنطين، وكاتدرائية سان بطرس بالفاتيكان، ثم تظهر صورة امرأة تكشف مؤخرتها فيصيح التلاميذ ويتقافزون بينما يحاول القس أن يسكتهم ويرغمهم على إغلاق عيونهم.

فيلليني الصغير حاضر في المدرسة ثم في البيت مع أسرته، ثم معهم أمام السينما التي تعرض فيلما عن روما القديمة. الحشد يقتحم السينما لمشاهدة الفيلم.. البطل يخلص البطلة الجميلة من الموت والجميع يحدق في الشاشة وتنساب الدموع.

الجمهور يتجمع أمام السينما، لا يوجد مكان للجميع في الداخل، وتقع مشاجرات من أجل الحصول على المقاعد، ثم على الشاشة يظهر فيلم تسجيلي في تمجيد الفاشية. امرأة لعوب تجلس بين رجلين في قاعة السينما، يقول لنا فيلليني بصوته إنهم كانوا يعتبرونها أسوأ من موسوليني.

سنقفز في الزمن إلى عام 1938 مع وصول فيلليني الشاب إلى محطة روما بالقطار. هنا تصبح روما ليست كروما التي نعرفها، بل صورة أخرى لها من عيني الفنان. إنه يصحبنا إلى منزل كبير يطرق بابه، لقد جاء بتوصية لصاحبته لاستئجار غرفة فيه، لكنه لا يشبه منزلا حقيقيا، بل هو عالم بأسره.. بشخصياته المتعددة المتباينة الكثيرة التي تسكنه، بغرفه وممراته، التي تخفي الكثير من الأسرار، وتظهر الكثير مما يحب القاطنون إظهاره واستعراضه. هناك ميل واضح لدى سكان هذا المنزل الذي يعبر عن رغبة فيلليني في الاندماج، في الانتماء، وأن يصبح مثل “أهل روما”.

وهو سيخرج معهم يتناول الطعام في المطاعم المفتوحة الممتدة على الأرصفة، حيث يلتهم الجميع كميات هائلة من الطعام حتى الرديء منه. ربما يحتفلون بالحياة وربما يأكلون لأنهم سئموا العيش وأصبح الأكل والجنس متعتهم الوحيدة كما يقول لنا فيلليني في مقطع آخر.

ثنائية الجمال والقبح

عرض الأزياء العجيب
عرض الأزياء العجيب

سيكشف لنا فيلليني في مشاهد عديدة أخرى بعد ذلك، “الابتذال” و”القبح” والإقبال على الجنس في مشاهد بيوت الدعارة التي سيتعرف عليها لأول مرة في روما، والعاهرات اللاتي يقدمن أنفسهن لمن يدفع، وكيف تتم رشوة المسؤولين للتغاضي عما يُمارس من أعمال منافية للقانون، والتناقض بين جمال الوجه وقبح المضمون (من خلال العاهرة الجميلة التي يكاد بطلنا يقع في حبها)، ثم ينتقل بنا إلى المسرح حيث تنتشر الأعمال المبتذلة السخيفة، التي يقبل عليها الجمهور ويتدافع من أجل مشاهدتها وهي استكمال للسينما الهروبية التي تتغنى بالبطولات والأمجاد القديمة، وكلها من سمات عصر الفاشية الإيطالية. وهنا يوجه فيلليني النقد إلى الإيطاليين أنفسهم الذين تغاضوا عما يحدث وأغمضوا عيونهم عنه وانساقوا وراء المتع الرخيصة العابرة كما انشغلوا بالمشاجرات العديدة في ما بينهم على أشياء تافهة هامشية.

ورغم أن فيلليني يقدم “أهل روما” بنظرة نقدية فيها الكثير من الكاريكاتورية والسخرية التي نعهدها في أفلامه، إلا أنه يقدم هذه الشخصيات “العادية” من البشر، بحب وتعاطف وفهم، فهو يصور أيضا بساطتهم وحبهم للحياة رغم كل ما يتواتر من مآس خلال فترة الحرب العالمية. فأفلام فيلليني عن روما منذ “الحياة الحلوة” تنبع أساسا من علاقة “الحب – الكراهية” ركيزة الإبداع عند الكثير من الفنانين الذين يتعاملون مع الواقع من خلال الخيال.

من البداية ومن دون الربط المباشر بين فيلليني الطفل ثم الشاب الصغير ثم المخرج الكبير، يريد أن يقول لنا إنه يصور فيلما، وإن ما يصوره هو ما يراه، وسينتقل في رؤيته من المشاهد التمثيلية إلى التسجيلية، وإلى الظهور بنفسه مباشرة أيضا أمام الكاميرا عندما ينتقل إلى أوائل السبعينات أي إلى الزمن المضارع وهو يصور فيلمه، ليأخذنا إلى الأنفاق التي يتم تشييدها لاحتواء مترو الأنفاق الجديد، وكيف يتم تدمير الكثير من الآثار الرومانية القديمة خدمة للاحتكارات الرأسمالية الجديدة. وفي مشهد هائل يكشف فيلليني تدريجيا عن مجموعة من اللوحات والتماثيل القديمة من العصر الروماني (كلها من تصميم الفنان المعاصر دانيلو دوناتي) وتصوير جيوسبي روتوندو، المصور الذي عمل مع فيسكونتي، واستعان به فيلليني في تصوير “ساتيريكون”.

إننا نشاهد ونحن نتأسى كيف تحولت روما الحديثة إلى ساحة مواجهات بين الشرطة والشباب العاطل، وكيف أصبح الشباب مدمنا للمخدرات، وتحولت الآثار إلى أماكن لاصطياد السائحات العجائز، وأصبحت روما بأسرها تغرق في التلوث والزحام والضجيج الذي لا ينقطع، وأصبح القبح يطغى على الموروث الجمالي.

يتكون الفيلم من مجموعة مشاهد متفرقة على غرار البناء الحر في “ساتيريكون”، وهي تجمع بين الخيالي التمثيلي، والتسجيلي الواقعي.

ويصل إلى حد اللهاث لإجراء مقابلة مصورة مع الممثلة الأسطورية أنا مانياني (بطلة روما مدينة مفتوحة) التي يقول إنها تحولت إلى رمز لروما نفسها، ثم يوجه سؤالا إلى المفكر الأميركي غور فيدال الذي يقول إن روما مثل أي مدينة عظيمة أصبحت في انتظار “نهاية العالم”. وفي أحد أكثر المشاهد سخرية وكاريكاتورية في فيلمه يواصل فيلليني كعادته انتقاد الكنيسة التي تحولت إلى عرض كبير للأزياء حيث يستعرض القساوسة والراهبات ملابسهن في حضور بابا الفاتيكان نفسه وممثلي بقايا الطبقة الأرستقراطية الغابرة. وهو مشهد لا مثيل له في تاريخ السينما.

تفاصيل الصورة

فيلليني يوجه النقد إلى الإيطاليين أنفسهم الذين تغاضوا عما يحدث وأغمضوا عيونهم عنه وانساقوا وراء المتع الرخيصة العابرة
فيلليني يوجه النقد إلى الإيطاليين أنفسهم الذين تغاضوا عما يحدث وأغمضوا عيونهم عنه وانساقوا وراء المتع الرخيصة العابرة 

لا تغفل عين المشاهد عن الاهتمام الكبير بكل تفاصيل الصورة التي تمنح الفيلم الإحساس بالفترة الزمنية والانتقال في الزمن: الملابس والديكورات والإكسسوارات وتصفيفات الشعر، مع كثير من التحرر في الخيال واختيار الأشكال والوجوه والأجساد التي يولع بها فيلليني كعادته، فكثير من الوجوه تبدو كما لو كانت ترتدي أقنعة، والموسيقى التي تسبق تقديم الكثير من الشخصيات هي موسيقى السيرك، فهو يرى الناس كمجموعات من المهرجين. ولا ننسى أنه قدم فيلم “المهرجون” (1970) قبل هذا الفيلم مباشرة.

لعل المشهد الذي يبدأ به الجزء الذي يصور خلاله فيلليني فيلمه التسجيلي عن روما يلخص التناقض بين جمال الماضي وقبح الحاضر.

نحن نرى فيلليني يجلس فوق رافعة تجرها سيارة ترتفع لترصد زحام الطرق في روما وتكدس السيارات على الطريق السريع، ثم نتابع الرافعة التي تحمل فيلليني وهي تسير وراء العشرات من السيارات تحت المطر الغزير، ثم تعبر الكاميرا على الكثير من معالم روما التي نعرفها، لينتهي المشهد الذي يبدو كأنه يدور بين الواقع والكابوس عند الكوليسيوم وتتوقف الكاميرا وتحلق من أعلى على المشهد العام تحت سحابة كثيفة من المطر تضفي المهابة على الصورة.

ويستغرق هذا المشهد وحده 9 دقائق وهو يحمل كل ملامح الأسلوب الباروكي لفيلليني: الكاميرا المتحركة التي ترصد، التكوينات والسيمترية، والصور الضبابية والآثار العملاقة.

وينتهي الفيلم بمشهد العشرات من الدراجات النارية التي يقودها شبان يرتدون الملابس السوداء، تعبر جميع روما في الليل بمواقعها وآثارها الشهيرة التي تمر علينا كأشباح تكمن في الظلام، وهي فكرة مخيفة قد تكون إنذارا من عودة الفاشية للهيمنة على روما مع بلوغ تلك المرحلة من “التدهور”.

إن “روما فيلليني” استطراد لفكرة “التدهور” و”الانحطاط” التي سبر فيلليني أغوارها من خلال أسلوبه وخياله الخاص في “ساتيريكون”. فبعد روما القديمة ينتقل فيلليني إلى روما الحديثة، محذرا من السقوط.

لا يوجد أبطال في “روما”. فيلليني لا يتحدث حتى بصوته بل بصوت آخر مختلف، وهو لا يتجاوب سوى في ما ندر، مع المحيطين به، بل يبدو منفصلا صامتا في معظم المشاهد وفي كل المراحل. وتبدو العاهرة التي تقف على أبواب روما شامخة شموخ المدينة التاريخية نفسها، وكأنها تعبر عن الحيرة، عن التطلع القلق إلى اللامنتهى، إلى المدينة التي لا تتغير أبدا. فالكنيسة سرمدية، والدولة تهيمن بقسوة وجبروت على المصائر، والشباب حائر يسقط في جحيم المخدرات أو ينغمس في تظاهرات الاحتجاج على التهميش (كانت إيطاليا تشهد الكثير من الفوضى والتظاهرات والإضرابات وقت تصوير الفيلم). والكبار يحبون المدينة بقدر كراهيتهم لها.. ورغم السأم والإفراط في محاولة تجاهل الواقع، يستمرون في التشاجر والتدافع والبحث عن التسلية والتهام أكبر كمية من الطعام.

لا يوجد أبطال في فيلم “روما فيلليني” بل بطل واحد فقط هو روما نفسها، لذلك لا يجب أن يبحث المشاهد عن علاقة بين الشخصيات والمشاهد في بناء تقليدي يقود من البداية إلى نهاية مفهومة سهلة، فنحن أمام رؤية حرة، وتداعيات تنطلق من خيال الفنان، مركزها وأساسها الذي تنطلق منه هو المدينة نفسها. فهي هنا “البطل”.

15