بيدرو ألمودوفار يتذكر في زمن العزل الاضطراري

المخرج الإسباني ينصح بمشاهدة الأفلام التالية في فترة العزل الصحي: "الشقيقات" و"شبح الفردوس" و"البديلة".
الجمعة 2020/04/24
مادونا مع ألمودوفار في زمن مضى

المخرج الإسباني الشهير بيدرو ألمودوفار وجد نفسه، مثل الجميع، يقضي وقته في العزل الصحي الاضطراري. وقد استغل الوقت في كتابة يوميات يسرد فيها وقائع من الماضي ويستعرض ذكرياته عمّن قابلهم وعرفهم واحتك بهم في الأوساط السينمائية في العالم، وأن يتوقّف أمام مشاعره الحقيقية ويحاول تفسيرها وفهمها في تلك الأيام العصيبة. وهو يقوم أيضا بترشيح الأفلام المفضلة لديه والكتب لمحبيه وعشاق أفلامه.

نشرت مجلة “سايت آند ساوند” بعضا ممّا كتبه المخرج الإسباني الشهير بيدرو ألمودوفار في يومياته عن الحجر الصحي المفروض عليه كبقية سكان العالم، وهنا يعود ألمودوفار إلى هوليوود.

بعد الإعلان عن فرض إجراءات جديدة صارمة تتعلق بالعزل الصحي، بدأت أشعر بأعراض فوبيا الأماكن المغلقة لأول مرة. وجاءت هذه الأعراض متأخرة بعض الشيء. وكنت قد تعرّضت لفترة قصيرة لحالة الخوف من الأماكن المغلقة والخوف من الأماكن المفتوحة الأغروفوبيا agoraphobia. وأعرف أنهما حالتان متناقضتان، ولكن جسمي كان دائما يجمع المتناقضات.

أدركت في تلك الليلة أنني سأحاول الخروج في اليوم التالي؛ شعرت كما لو كنت سأرتكب جريمة مع سبق الإصرار، كما لو كنت تمنح نفسك متعة محظورة ولا يمكنك فعل أي شيء لتجنّبها. وهذا يشبه ما يدور في روايات الأدب الرخيص، وهو كذلك بالفعل، لكنني أرجع هذا الشعور إلى تأثير الحبس.

لقد خطّطت على أقل تقدير أنني سأذهب لشراء الطعام، أي في جولة تسوق حقيقية. ففي صباح ذلك الثلاثاء، ارتديت ملابسي استعدادا للخروج، وشعرت أنني أفعل شيئا استثنائيا: فقط ارتداء ملابسي. لقد مرّ عليّ 17 يوما منذ آخر مرة خرجت فيها، وكنت دائما أعاني من ارتداء الملابس.

ذكريات تتداعى

تذكّرت أنني ارتديت ملابس معينة في مناسبات عدة أخرى، يمكنني استرجاعها الآن. على سبيل المثال، أتذكر أنني في عام 1980 كنت أرتدي ملابسي في شارع لوب دو رويدا، تأهبا للذهاب إلى حفل افتتاح فيلمي الروائي الطويل الأول “لوسي، بوبي، وبوم”، في سينما بينالفير في شارع كوند دو لا بينالفير. وعلى الرغم من أنها كانت قاعة سينما تُعيد عرض الأفلام بعد فترة، إلاّ أنني كنت أشعر كما لو أن العرض سيكون في “مسرح كوداك” في لوس أنجلس.

بيدرو ألمودوفار: كان يجب أن تحدث جائحة لكي يعرف العالم كيف سار حفل العشاء الذي جمع مادونا ببانديراس في الواقع
بيدرو ألمودوفار: كان يجب أن تحدث جائحة لكي يعرف العالم كيف سار حفل العشاء الذي جمع مادونا ببانديراس في الواقع

كانت المرة الأولى التي أشاهد فيها فيلما لي مع الجمهور، والمرة الأولى في سينما حقيقية وكجزء من دائرة التوزيع التجاري، وكانت المقاعد ممتلئة بالمتفرّجين، وكان الجمهور يشاهد المناظر التي صوّرتها مع أصدقائي خلال عام ونصف العام من التصوير. وقد ضحك كثيرا أولئك الذين لم يغادروا السينما. وأتذكّر أنني كنت أرتدي سترة من الساتان الأحمر، اشتريتها من سوق بورتوبيللو في لندن.  أتذكّر أنه بعد مرور عامين على العرض الأول لفيلمي، ارتديت بذلة رمادية على غرار ما كان يرتديه ماوتسي تونغ، وذهبت إلى حانة في مالاساينا. لم أكن من المغرمين قط بطرز بذلات ماو، وكنت أفضل عليها طراز البذلات التي تُصمّمها دوروثي بيركنز لأن ياقاتها تغُطي الذقن المزدوجة. أتذكّر بذلة ماو لأن الصبي المعني أصبح جزءا من حياتي للسنتين أو الثلاث سنوات التالية. وقد ترك أثرا في نفسي.

أتذكّر أيضا ربطة العنق من حرير شانتونغ البنفسجي من تصميم أنطونيو ألفارادو، وأحذية الكاحل المرصّعة، مثل تلك التي يصنعها حاليا لوبوتان، والتي ارتديتها في أول حفل أوسكار أحضره على الإطلاق في عام 1989. لم نفز وقتها، وتحطمت علاقتي بالممثلة كارمن ماورا، لكنني أتذكّر تلك الرحلة إلى لوس أنجلس التي كانت مليئة بالأحداث الرائعة.

قبل الحفل بأربعة أو خمسة أيام، تناولنا العشاء في منزل جين فوندا التي كانت مهووسة بإعادة إنتاج فيلمي “نساء على حافة الانهيار العصبي”. وقد دعت إلى منزلها وقتها عددا قليلا من الأشخاص مثل أنجيليكا هيوستن وجاك نيكلسون، رفيقها آنذاك، وجاءت كذلك المغنية والممثلة “شير” بماكياج طبيعي جعلها تبدو كما لو كانت من دون ماكياج، أكثر روعة، ألطف وأقصر ممّا تخيّلت.

حضرت أيضا الممثلة مورغان فيرتشايلد. نعم (اعتقدت أن الضيف التالي سيكون شخصا مثل سوزان سونتاغ) لقد فوجئت حقا لأنني كنت أظن أن مورغان فيرتشايلد مثّلت أدوارا أدنى كثيرا في مستواها من الآخرين (على الرغم من أن مساهمتها في فيلمي “طريق الفلامنغو” و”حافة الصقر”) ليست إنجازا صغيرا. ولا بد أن جين فوندا لاحظت دهشتي، فأوضحت لي أنها كانت تشترك في المظاهرات مع مورغان فيرتشايلد، التي لم تكن تقل عنها في انحيازها للحركة النسوية!

لقد قضينا السهرة ونحن مندهشون من طاقة وحيوية الشخصيات النسائية الحاضرة بالإضافة إلى جاك بالطبع. التقطنا الكثير من الصور معهم التي تظهر فيها اللوحات المعلقة على الجدران التي رسمها والد جين، هنري فوندا.

صوت مادونا

مادونا ووارن بيتي في فيلم "ديك تريسي"
مادونا ووارن بيتي في فيلم "ديك تريسي"

في صباح اليوم التالي للحفل، تلقيت مكالمة هاتفية في الفندق، كان الصوت صوت امرأة، قالت لي كما لو أنها لم تكن تدرك تأثير كلماتها. ولكنها كانت واثقة من أن صوتها سيكون له تأثير كبير “مرحبا، إنها مادونا. أنا أصوّر حاليا فيلم ‘ديك تريسي’ ويسعدني أن تحضر لترى الموقع. أنا لا أصوّر اليوم ويمكنني أن أخصّص لك اليوم بأكمله”.

كان يمكن أن تكون هذه خدعة بالطبع، أي امرأة تنتحل شخصية مادونا، أو امرأة ذات نزعة إجرامية كانت تريد تقطيعي إلى قطع على أرضية من تلك الأراضي المليئة بالنفايات التي وصفها جيمس إلروي بشكل جيد في رواياته. وإذا كنت قد قرأت رواية “الزنبقة السوداء” The Black Dahlia فستعرف ما أتحدث عنه: لقد تم تقطيع والدة إلروي Ellroy في إحدى تلك الأراضي البور. يمكنك أيضا مشاهدة الفيلم المأخوذ عن تلك الرواية، وأخرجه بريان دي بالما الذي أحب أفلامه كثيرا، وقامت ببطولته سكارليت جوهانسون وهيلاري سوانك، لكن الحقيقة أنه لم يسر بشكل جيد.

لا بأس بمشاهدته في فترة العزل الصحي، لكني أوصيك بأفلام أخرى مثيرة من إخراج دي بالما مثل “الشقيقات”، “شبح الفردوس”، “طريق كارليتو” و”البديلة” الذي قامت ببطولته ميلاني غريفيث عندما كانت في عز مجدها؛ نحيفة كقطعة مشتعلة بالنار، وقبل كل شيء، “سكارفيس” أو “الوجه ذو النبة” مع آل باتشينو. لا تهتم بـ”الزنبقة السوداء” وضع لنفسك برنامجا مع كل هذه الأفلام. وستشكرني لاحقا.

أعود إلى موضوع مادونا، كان يمكن أن تكون المتصلة امرأة تلعب لعبة ما عليّ، لكن تقديري لذاتي، على الرغم من عدم فوزي بالأوسكار، كان مرتفعا بما يكفي لكي أعتقد أن هذه المكالمة كانت صادقة. وقد أعطاني صوت مادونا عنوان الأستوديو حيث كانوا يصوّرون الفيلم، وذهبت إلى هناك، مبتهجا للغاية. الحقيقة أن الحاضرين جميعا، من وارن بيتي إلى فيتوريو ستورارو، كانوا جميعا شديد اللطف واللياقة. لقد عاملوني كما لو كنت جورج كوكور. وأرغمني وارن بيتي على الجلوس على الكرسي المنقوش عليه اسمه، كرسي المخرج، حتى أتمكّن من مشاهدة المشهد الذي كانوا يصوّرونه. كانوا يصوّرون مشهدا لم يكن ممكنا التعرّف فيه على آل باتشينو وهو يثرثر من دون توقّف. وقد رُشّح عن دوره هذا لجائزة الأوسكار في العام التالي، وحصل الفيلم على ثلاث جوائز أوسكار.

أخذتني مادونا في جولة على جميع الديكورات، والتقيت بشخصية أعجبت بها بشدة: ميلينا كانونيرو، مصمّمة الأزياء التي فازت بالفعل بثلاث جوائز أوسكار عن أفلام “عربات النار”، “باري ليندون”، و”نادي القطن” (سيتم ترشيحها عن فيلم “ديك تريسي” في العام التالي)، وأوصي بمشاهدة الأفلام الثلاثة خلال فترة الحجر الصحي، وإن كان فيلمي المفضل من بينها هو “باري ليندون” لستانلي كوبريك.

وقد فازت ميلينا كانونيرو بجائزة أوسكار رابعة لا أتذكّر عن أي فيلم. وقد تركت زيارتي إلى ورشة عملها أقوى انطباع لي خلال تلك الزيارة. وكانت السبب في رغبتي في العمل في هوليوود: الهوس بالتفاصيل.

مادونا وبانديراس

أنطونيو بانديراس في "قيدني من أعلى ومن أسفل"
أنطونيو بانديراس في "قيدني من أعلى ومن أسفل"

إذا اتصلت بي مادونا ومنحتني الشعور بالاهتمام كما فعلت في اليوم التالي، على الرغم من عدم فوزي بالأوسكار، فهذا يعني أن “الفتاة المادية” مهتمة كثيرا بي. ولم يستغرق الأمر وقتا طويلا إلى أن التقينا مرة أخرى في العام التالي بمناسبة جولتها الغنائية في إسبانيا. وقد خرجت معها في جولات خلال الأيام التي قضتها في مدريد، كما نظّمت لها حفلة فلامنكو كبيرة في فندق “بالاس”، مع فرقة مرموقة، إلاّ أنها أوضحت لي أنها مهتمة بمقابلة ضيف آخر، غيري طبعا، هو أنطونيو بانديراس. وقد وعدتها بأن أنطونيو سيكون هناك، لكني لم أخبرها أنني لا أستطيع دعوته من دون زوجته آنذاك، أنا ليزا، إحدى كبار المعجبات بمادونا.

قرّرت مادونا كيف يجب أن تكون جلستنا (كان هناك عدد من الموائد المستديرة لأصدقائي وراقصاتها). وبطبيعة الحال، جلست هي على الطاولة الرئيسية، بينما جلست أنا على يمينها وجلس أنطونيو على يسارها. وأرسلت مادونا آنا ليزا إلى المائدة الأبعد في هذا الصالون العظيم.

بخلافنا نحن الاثنين، وإلى حد ما، فرقة “لابولكا” للفلامنكو، التي كانت رائعة، لم تهتم مادونا بأي شخص آخر. وقالت لي إن أحد أعضاء فريقها، وكان يحمل كاميرا عالية الجودة، سيصوّر كل شيء  “على سبيل التذكار”. وهو ما بدا لي غريبا، لكن المضيف الجيد لا يجب أن يوجّه أسئلة محرجة إلى ضيفه.

اضطررت لأن أترجم لمادونا بعض الأسئلة التي كانت مهتمة بها للغاية وهي تتعلق بأنطونيو بانديراس. وكان هو، في تلك اللحظة من حياته المهنية، على وشك الانطلاق كالصاروخ. وكانت العروض الأولى لفيلمنا معا “اربطني من أعلى ومن أسفل” قد افتتحت في الولايات المتحدة، وقد وقع في غرامه النقاد ورجال هوليوود (ومادونا)، ولكن في تلك الليلة من عام 1990 لم يكن أنطونيو يتحدّث كلمة واحدة باللغة الإنجليزية.

أقول هذا لأنه بعد مرور عام، عرض فيلم “في الفراش مع مادونا” In Bed with Madonna  لأول مرة، واتضح أنهم استخدموا جزءا كبيرا ممّا في حفلة فندق بالاس. كانت مضايقة أنطونيو واحدة من الوقائع الرئيسية خلال الحفل، ومن الواضح أن مادونا تحكّمت عن طريق المونتاج، لتجعل آنا ليزا لا تنطق سوى بجملة حوار واحدة فقط.

وفي نهاية العشاء، تجرأت آنا على الاقتراب من طاولتنا وقالت للشقراء الإلهية بسخرية “أرى أنك تحبين زوجي، وهذا لا يفاجئني فجميع النساء مثلك، لكنني لا أمانع لأنني متفتحة للغاية”. وقد أجابتها مادونا بكلمة نابية!

في وقت ما خلال العشاء، قالت لي مادونا “اسأل أنطونيو إن كان يحب ضرب النساء”. (أقسم أن هذا ما قالته).

ترجمته له. أنطونيو لم يتفوّه بكلمة. لقد غمغم فقط، وبدا على وجهه كما لو كان يقول “أنا رجل إسباني متحضّر وسأفعل كل ما تطلبه مني سيدة”.

بالنسبة لي كانت إيماءة صامتة بليغة، لكن مادونا تمادت. ومرة أخرى تطلب مني “اسأله إذا كان يحبّ أن يضرب النساء”. وترجمتها له. “ضرب” و”النساء” كانتا كلمتان أعرفهما جيدا في عام 1990. قام أنطونيو بنفس الإيماءة، بما يعني: لا هذه ولا تلك، ولكنه كان مستعدا للاستجابة لما تريده السيدات.

قد يبدو كل هذا تافها، وهو أشبه بسجل كتبه باتي ديبوسا أكثر من ذكريات مكتوبة في فترة العزل الصحي التي نعيشها، لكن الذاكرة تكون عبثية تماما عند اختيار الوقائع. لا أمانع إذا ما بدا هذا وكأنه تصفية حساب: فلو كان الأمر قد سار في الاتجاه العكسي (أي أنني كنت أنا الذي صوّرت مادونا وفريقها وصنعت فيلما باستخدام كل هذه اللقطات التي عرضت في العالم كله)، لكنت قد تلقّيت ضربة في شكل دعوى قضائية، ربما كنت لم أزل أعاني منها. لقد عاملتنا مادونا كما لو كنا مجموعة من البلهاء، وكان لا بد أن أصرّح بذلك ذات يوم. إنها لم تطلب إذنا باستخدام ما صوّرته، بل لقد قامت أيضا بدبلجة كلامي إلى الإنجليزية.

كانت مناوشة مادونا لبانديراس من أغرب ما دار في تلك الليلة، لكنها لم تر أن من المناسب تضمينها في فيلمها. وكان يجب أن تحدث جائحة لكي يعرف العالم كيف سار حفل العشاء هذا في الواقع.

16