الفايروس الغامض جاء من أفريقيا وذهب إلى هوليوود

فيلم "الوباء" يستند على أساس علمي قوي حيث يكشف تدريجيا طبيعة وباء "موتابا" من خلال أسلوب إخراج يجسّد أعراض المرض بشكل مادي ملموس تماما.
الثلاثاء 2020/04/28
الخبراء الثلاثة موفدون من الجيش الأميركي لتحري الوضع في زائير

الفيلم الأميركي “الوباء” من الأفلام القليلة التي تناولت موضوعا يصوّر انتشار وباء ينتج عن فايروس شبيه بفايروس الأنفلونزا، لكنه أكثر خطورة، يمكنه أن يمتد إلى العالم ليقتل الملايين من البشر. والفيلم في جوانب كثيرة، يبدو وكأنه يعبّر عمّا يحدث اليوم مع انتشار وباء فايروس كورونا.

 أنتج فيلم “الوباء” (Outbreak) عام 1995، أي أنه سبق الكثير من الأفلام التي يُنسب إليها السبق في “التنبؤ” بما يشهده العالم حاليا خاصة فيلم “العدوى” (Contagion) الذي أخرجه ستيفن سودربرغ عام 2011. ويستند فيلمنا هذا على كتاب “المنطقة الساخنة” لريتشارد بريستون، وكتاب “الطاعون القادم” للوري غاريت.

والكتابان يسلطان الضوء على انتشار الأمراض المعدية بشكل وبائي، وبينما يناقش الكتاب الأول العلاقة بين الاعتداء على البيئة وظهور فايروسات جديدة مثل فايروس إيبولا، يصف الكتاب الثاني أعراض الأمراض الناتجة عن الإصابة بالفايروسات الجديدة.

هناك إذن أساس علمي قوي يستند عليه الفيلم الذي أخرجه عام 1995 المخرج الألماني وولفغانغ بيترسن الذي اشتهر بأفلامه المثيرة مثل “في خط النيران” و”قوة الطيران 1” و”طروادة” و”بوسايدون”. ويتمتع الفيلم بطاقم من كبار نجوم هوليوود: داستين هوفمان ومورغان فريمان وكيفن سبايسي ودونالد سوذرلاند ورينيه روسو وغيرهم.

بداية مثيرة

رينيه روس هي فاكهة فيلم "الوباء"، التي تحب وتغضب وتحتد وتتشاجر على أشياء طفولية صغيرة، لكنها طيبة القلب
رينيه روس هي فاكهة فيلم "الوباء"، التي تحب وتغضب وتحتد وتتشاجر على أشياء طفولية صغيرة، لكنها طيبة القلب

يبدو هذا الفيلم الأكثر قربا في تصوير الملامح المميزة الشبيهة بفايروس كورونا الذي يعاني منه العالم في الوقت الحالي. فهو يصف بدقة وبالتفاصيل ومن خلال صور الميكروسكوب، شكل الفايروس الذي يطلق عليه فايروس “موتابا” وكيف يمكنه أن يتطوّر وينتج شكلا آخر أو جيلا ثانيا، كما يصوّر الأعراض العديدة التي تصيب المرضى، وكيف يبدأ المرض ثم ينتقل بين الأفراد عن طريق السعال والعطس.

وأعراض موتابا تشبه أعراض إيبولا لكنها أكثر قسوة: احمرار العينين، شحوب الوجه، آلام البطن، القيء، ارتفاع درجة الحرارة، ثم التشنجات العضلية والنزيف من فتحات الجسم المختلفة، ثم الموت.

ويبدأ الفيلم في عام 1967. هناك فايروس قاتل تم اكتشافه في منطقة استوائية قرب غابات زائير بوسط أفريقيا، شبيه بفايروس إيبولا، يطلقون عليه “موتابا”. في تلك المنطقة هناك معسكر للجنود المرتزقة.  ينتشر الفايروس ويصيب جنود المعسكر.

يبدو أن الفايروس الغامض استخدم هناك من قبل الجيش الأميركي أثناء تجربته في إطار “الحرب البيولوجية”. وللحفاظ على السرّ يكلّف الجيش الأميركي الضابطين دونالد ماكلنتوك (دونالد سوذرلاند)، وبيللي فورد (مورغان فريمان) بتدمير المعسكر بمن فيه للتخلّص من أي دليل.

في عام 1995، أي بعد 28 سنة، ينتشر فايروس غامض في زائير فيرسل معهد الأبحاث الطبية بالجيش الأميركي الضابط دانييلز راسل (داستين هوفمان) وهو خبير في الأمراض المعدية، مع اثنين من رفاقه، لتحرّي الأمر.

الفيلم يبدو الأكثر قربا في تصوير الملامح المميزة الشبيهة بفايروس كورونا الذي يعاني منه العالم في الوقت الحالي

في الوقت نفسه يقوم شاب أميركي مغامر يعمل في معمل أبحاث الحيوان، بسرقة قردة صغيرة دون أن يعرف أنها تحمل الفايروس، ويعود بها إلى الولايات المتحدة بغرض بيعها لتاجر حيوانات نادرة، إلاّ أنه يفشل في بيعها ولكن بعد أن تكون العدوى قد انتقلت لكليهما، ثم تصل العدوى إلى بلدة صغيرة في كاليفورنيا.

ويبدأ الدكتور دانييلز مع زميله الكولونيل كيسي (كيفن سبايسي) في البحث عن سبب انتشار الفايروس ودراسة تكوينه وأعراض المرض الذي يسبّبه، وفي الوقت نفسه تتحقّق الدكتورة روبرتا زوجة دانييلز السابقة في قسم مكافحة الأرض المعدية في بوسطون، من انتشار المرض.

هذا الجزء من الفيلم مصنوع بدقة عالية، بفضل السيناريو الجيد الذي يكشف لنا تدريجيا طبيعة المرض، من خلال أسلوب إخراج يجسّد أعراض المرض بشكل مادي ملموس تماما. ففي أحد المشاهد التي ليس من الممكن نسيانها، نحن داخل قاعة سينما، تنتاب أحد الشباب نوبة سعال شديدة، وعن طريق الحركة البطيئة، يندفع رذاذ من فمه ويطير على مسافة نحو أربعة أمتار ليدخل في فم شخص آخر كما يستنشقه الآخرون. ويبدو هذا المشهد تحديدا وكأنه تجسيد عملي لكيفية انتشار فايروس كورونا في الوقت الراهن. بعد قليل تمتلئ المستشفى بعشرين أو ثلاثين مصابا ممّن كانوا في قاعة السينما.

بالإضافة إلى المحور الطبي الذي يتعلّق بالمرضى والمستشفيات التي تزدحم بالحالات العديدة للمصابين بالفايروس، ثم قيام الجيش الأميركي بحصار البلدة المنكوبة وفرض الحظر التام على سكانها، هناك محوران آخران تدور الدراما من حولهما ويظل الفيلم ينتقل طوال الوقت: أولا علاقة دانييلز بزوجته السابقة. وهو محور يتّخذ أحيانا ملامح كاريكاتورية مضحكة عندما نرى كيف أنهما مازالا بعد انفصالهما يتشاجران حول من منهما يجب أن يرعى الكلبين.

ورغم الصراخ والانفعال والحدة، إلاّ أننا نستطيع أن نلمح أنها ناتجة عن شعور متبادل بالفقدان، بالخسارة، بالحماقة والتسرّع. فالحب لا يزال قائما دفينا لكن العناد يطغى عليه. وفي ما بعد، عندما تصاب روبرتا بالعدوى سيصارع دانييلز ويغامر بحياته، من أجل الوصول إلى استخراج المصل المضاد لإنقاذ حياتها.

البطل الفرد

داستين هوفمان وجوده أضفى حيوية وحرارة على مشاهد الفيلم، فهو يعرف كيف يتحكم في أدائه ويطوعه ويمنحه المصداقية
داستين هوفمان وجوده أضفى حيوية وحرارة على مشاهد الفيلم، فهو يعرف كيف يتحكم في أدائه ويطوعه ويمنحه المصداقية

يتعلّق المحور الثالث بالصراع بين دانييلر ورئيسه الجنرال بيللي فورد، بعد أن يكتشف أنه يُخفي حقائق تتعلّق بما وقع قبل 28 عاما في زائير، لكنه سيتوصّل إلى معرفة الحقيقة، عندما يأتيه فورد بالمصل المضاد القديم المحفوظ لفايروس موتابا.

وسيعرف بالتالي حقيقة وجود فايروس تم التكتّم عليه، لصالح “المؤسّسة” التي يمثلها الجنرال ماكلنتوك (سوذرلاند) الذي يعمل كمستشار طبي عسكري في البنتاغون والبيت الأبيض، وهو الذي يأمر بمُحاصرة البلدة، ثم في ما بعد، بقصفها بالطائرات الحربية وتدميرها على رؤوس سكانها، بعد حصوله على مباركة من الرئيس الأميركي نفسه، بهدف الاحتفاظ بسرّ السلاح البيولوجي، وعدم انكشاف دوره مع زميله الجنرال فورد في زائير.

في النصف الثاني من الفيلم، يتّجه العمل إلى الوجهة الهوليوودية التقليدية المألوفة في أفلام البطولة الفردية، فيصبح داستين هوفمان، هو “سوبرمان” الذي يكافح ضد الأشرار لكي ينقذ العالم من الوباء القادم.

يخالف تعليمات رئيسه ويستولي على مروحية عسكرية يقودها رفيقه الكولونيل سالت، ويهبط بجسده فوق السفينة التي أقلّت القردة الصغيرة من أفريقيا (بعد أن يكون قد نجح في رصد تاريخ رسوها على الشاطئ الأميركي)، ثم يقتحم محطة تلفزيون يطلب مساعدة الجمهور في العثور عليها، ثم يخوض مواجهة مصيرية مع الطائرة التي تتأهب لقصف البلدة.

وكلها مشاهد مصنوعة جيدا، بحيث تجعلك تفقد الكثير من الأدرينالين، لكن هنا تحديدا يفقد الفيلم الكثير من مصداقيته. فالبطل – الأميركي – الفرد – الأبيض – من الطبقة الوسطى، صاحب الضمير الأخلاقي الحي، (الذي يتحالف معه الكولونيل سالت الأفرو – أميركي) ينتصر بعزيمته وإصراره وأساسا، بقوته الأسطورية، على “المؤسسة” بأسرها ويهزم خططها، ويستطيع أن يكسب أخيرا إلى صفّه الجنرال المتردّد المذعور (ولكن الطيب القلب) فريمان (الأفرو – أميركي أيضا) ويجعله يتصدّى لإحباط خطة الجنرال الشرير سوذرلاند بقتل الأبرياء.

ليس بوسع أي متفرج أن يعتقد رغم ترحيبه بالنهاية السعيدة للفيلم، أن من الممكن أن تنتهي محنة وباء كورونا العالمي، بمجرد أن يتوفّر لدينا بطل مثل داستين هوفمان وطبيبة حسناء مخلصة مثل رينيه روسو (بوبي) وضابط مقدام يستطيع أن يقود مروحية رغم أنه ليس طيارا، ويهرب بها في منحنيات شديدة الصعوبة، ويتجنّب قصف طائرة حربية يقودها أفضل طيار في الجيش، تتعقّبه وتطلق قذائفها في اتجاهه.

صور بديعة

خوض المغامرة بدافع الخير
خوض المغامرة بدافع الخير

رغم ذلك، لا بد من الإقرار بأن الفيلم يتميز بصوره البديعة بفضل مدير التصوير الألماني المرموق مايكل بالهاوس (الذي سبق أن عمل مع سكورسيزي وفاسبندر ومايك نيكولز).

فهو يجعل الفيلم يبدو وكأنه مصوّر في لقطة واحدة ممتدة من خلال اللقطات الطويلة المتحركة (تراكننغ) التي تتابع الشخصيات دون هوادة في الداخل والخارج، في حركة دودية مستمرة مرهقة من مشهد إلى آخر، مع موسيقى جيمس نيوتون هاوارد التي تتصاعد لتُثير القشعريرة في جسدك في الكثير من مشاهد الحركة والمطاردات الأخيرة التي رغم طرافتها وخضوعها لسينما الإثارة التقليدية في هوليوود، لا يملك المرء سوى الإعجاب بتماسكها ودقة تنفيذها وإيقاعها المتدفّق السريع المُحكم.

ولا شك أن وجود داستين هوفمان كنجم كبير، يضفي الحيوية والحرارة على الكثير من مشاهد الفيلم، فهو يعرف كيف يتحكّم في أدائه ويطوّعه ويمنحه المصداقية، ومن أفضل المشاهد التي يؤدّي فيها برقة وبساطة وعفوية مشهد مخاطبته لطفلة صغيرة في منزل ريفي، أقامت علاقة مع القردة الحاملة للفايروس، لكي يقنعها باستدراجها من الغابة القريبة حتى يتمكّن مُساعده من تخديرها ثم استخلاص المصل المضاد منها. أما في النصف الثاني لم يكن هوفمان مقنعا في مشاهد المغامرات البطولية التي كانت تقتضي ممثلا آخر أكثر شبابا.

دونالد سوذرلاند هو “شرير الفيلم” التقليدي المصر على موقفه حتى النهاية الدموية، الذي يريد تدمير البلدة بدعوى الحفاظ على الأمن القومي. إنه “الوجه القبيح” للعسكرية الأميركية. أما فريمان فهو الجنرال المتمرّد بين الاستسلام للحقيقة وإنقاذ سكان البلدة من الهلاك، وبين إطاعة رئيسه لكي لا يفقد منصبه العسكري. أما رينيه روس فهي فاكهة الفيلم، التي تحب وتغضب وتحتد وتتشاجر على أشياء طفولية صغيرة، لكنها طيبة القلب، تحرص على الاهتمام بأمر زوجها السابق، كاشفة عن رغبة خفية في استعادة العلاقة. والمحنة المشتركة في النهاية، تقرّب بين القلوب!

16